فصل: تفسير الآيات رقم (16- 17)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المديد في تفسير القرآن المجيد ***


سورة الواقعة

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 12‏]‏

‏{‏إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ ‏(‏1‏)‏ لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ ‏(‏2‏)‏ خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ ‏(‏3‏)‏ إِذَا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا ‏(‏4‏)‏ وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا ‏(‏5‏)‏ فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثًّا ‏(‏6‏)‏ وَكُنْتُمْ أَزْوَاجًا ثَلَاثَةً ‏(‏7‏)‏ فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ ‏(‏8‏)‏ وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ ‏(‏9‏)‏ وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ ‏(‏10‏)‏ أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ ‏(‏11‏)‏ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ ‏(‏12‏)‏‏}‏

قال ابن عطية‏:‏ رُوي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ «مَن دوام على قراءة سورة الواقعة لم يفتقر أبداً»، ودعا عثمانُ عبدَ الله بنَ مسعود إلى عطائه، فأبى أن يأخذ، فقيل له‏:‏ خُذ للعيال، فقال‏:‏ إنهم يقرؤون سورة الواقعة، وسمعتُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ «مَن قرأها لم يفتقر أبداً» قال ابن عطية‏:‏ فيها ذكر القيامة، وحظوظ الناس في الآخرة، وفَهْمُ ذلك غِنىً لا فقر معه، ومَن فهِمه شُغل بالاستعداد‏.‏ ه‏.‏ وقال مسروق‏:‏ مَن أراد أن يعلم نبأ الأولين، ونبأ أهل الجنة، ونبأ أهل النار، ونبأ الدنيا والآخرة؛ فليقرأ سورة الواقعة‏.‏ ه‏.‏

يقول الحق جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏إِذا وَقَعت الواقعةُ‏}‏ إذا قامت القيامة، وذلك عند النفخة الثانية، ووُصفت بالوقوع لأنها تقع لا محالة، فكأنها واقعة في نفسها، كأنه قيل‏:‏ أذا وقعت التي لا بُدّ من وقوعها‏.‏ ووقوع الأمر‏:‏ نزوله، يقال‏:‏ وقع ما كنت أتوقعه، وانتصاب ‏{‏إذا‏}‏ بمضمر يُنبئ عن الهول والفظاعة، كأنه قيل‏:‏ إذا وقعت الواقعة يكون من الأهوال ما لا يَفي به المقال، أو‏:‏ بالنفي المفهوم من قوله‏:‏ ‏{‏ليس لِوقعتها كاذبةٌ‏}‏ أي‏:‏ لا كذب وقت وقوعها، أو‏:‏ باذكر، أو‏:‏ بمضمون السورة قبلها، أي‏:‏ يكون ما ذكر من نعِيم الفريقين إذا وقعت الواقعة، ثم استأنف بقوله‏:‏ ‏{‏يس لوقعتها كاذبةٌ‏}‏ أي‏:‏ لا يكون عند وقوعها نَفْسٌ تَكذب على الله، أو‏:‏ تكذب في نفسها كما تكذب اليوم، لأنَّ كل نفس حينئذ مؤمنة صادقة مصدّقة، وأكثر النفوس اليوم كواذب مكذّبات، واللام مثلها في قوله‏:‏ ‏{‏قَدَّمْتُ لِحَيَاتِى‏}‏ ‏[‏الفجر‏:‏ 24‏]‏، أي‏:‏ ظرفية، أي‏:‏ ليس عند وقوعها كذب، أو‏:‏ تعليلية، قال الفراء‏:‏ ‏{‏كاذبة‏}‏‏:‏ مصدر، كالعاقبة والعالية، وقيل‏:‏ صفة لمحذوف، كما تقدّم‏.‏

‏{‏خافضةٌ رافعةٌ‏}‏ أي‏:‏ هي خافضة لأقوام، رافعة لآخرين، وهو تقرير لِعظمها وتهويل لأمرها، فإنَّ الوقائع العِظام شأنها كذلك، أو‏:‏ بيان لِما يكون يومئذ من حَطّ الأشقياء إلى الدركات، ورفع السعداء إلى الدرجات، ومن زلزلة الأشياء وإزالة الأجرام عن مقارها، بنثر الكواكب وتسيير الجبال، كما أبان ذلك بقوله‏:‏ ‏{‏إِذا رُجَّتِ الأرضُ رجّاً‏}‏‏:‏ حُرِّكت تحريكاً شديداً حتى تهدِم كلَّ شيء فوقها، من جبل وبناء، وهو متعلق بخافضه، أي‏:‏ تخفض وترفع وقت رج الأرض، أي‏:‏ عند ذلك ينخفض ما هو مرتفع، ويرتفع ما هو منخفض، أو‏:‏ بدل من‏:‏ ‏{‏إذا وقعت‏}‏، وجواب الشرط‏:‏ ‏{‏فأصحاب الميمنة‏}‏، والمعنى‏:‏ إذا كان كذا فأصحاب الميمنة ما أسعدهم، وما أعظم ما يُجازون به، وما أعظم رتبتهم عند الله في ذلك الوقت الشديد الصعب على العالم‏.‏ وتقديم الخفض الملتّت، من‏:‏ بسَّ السويق‏:‏ إذا لتّه، أو‏:‏ سِيقت وسُيّرت عن أماكنها، من‏:‏ بسّ الغنم‏:‏ إذا ساقها، كقوله تعالى‏:‏

‏{‏وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ‏}‏ ‏[‏النبأ‏:‏ 20‏]‏‏.‏ ‏{‏فكانت‏}‏ أي‏:‏ فصارت بسبب ذلك؛ ‏{‏هباءً‏}‏ غباراً ‏{‏مُنبثاً‏}‏ منتشراً متفرقاً في الهواء، والهباء‏:‏ ما يتطاير في الهواء من الأجزاء الدقيقة، ولا يكاد يُرى إلاّ في الشمس إذا دخلت في كُوة، ‏{‏وكنتم‏}‏ معاشر الخلق، أو‏:‏ أيتها الأُمة ‏{‏أزواجاً‏}‏ أصنافاً ‏{‏ثلاثة‏}‏ صنفان في الجنة، وصنف النار، قال قتادة‏:‏ هي منازل الناس يوم القيامة‏.‏

ثم فسّر تلك الأزواج، فقال‏:‏ ‏{‏فأصحابُ الميمنة‏}‏ وهم الذي يؤتون صحائفهم بأيمانهم ‏{‏ما أصحابُ الميمنة‏}‏، تعظيم لشأنهم، و«ما»‏:‏ استفهام تعجب مبتدأ، و«أصحاب»‏:‏ خبر، والجملة‏:‏ خبر المتبدأ الأول، والأصل‏:‏ فأصحاب الميمنة ما هم‏؟‏ أي‏:‏ أيّ شيء هم في حالهم وصفتهم‏؟‏ فوضع الظاهر موضع المضمر زيادة في التعظيم، ومثله‏:‏ ‏{‏الْحَآقَّةُ مَا الْحَآقَّةُ‏}‏ ‏[‏الحاقة‏:‏ 1، 2‏]‏ ونظائرها‏.‏

‏{‏وأصحابُ المشئمةِ‏}‏ أي‏:‏ الذين يُؤتون صحائفهم بشمالهم ‏{‏ما أصحابُ المشئمة‏}‏ أي‏:‏ أيّ شيء هم‏؟‏‏!‏ تعجيب من حالهم الفظيع، أو‏:‏ فأصحاب المنزلة السنية؛ وأصحاب المنزلة الدنية الخسيسة، من قولك‏:‏ فلان مِني باليمين، وفلان مِني بالشمال؛ إذا وصفتهما عندك بالرفعة والوضعة، وذلك لتيمُّنهم بالميامن وتشاؤمهم بالشمائل، وقيل‏:‏ يُؤخذ بأهل الجنة ذات اليمين، وبأل النار ذات الشمال‏.‏ وقال القشيري‏:‏ أصحاب الميمنة‏:‏ هم الذين في جانب اليمين من آدم وقت ذرَّ الذرية من صُلبه، وأصحاب المشئمة الذين كانوا في جانب شماله‏.‏ ه‏.‏ قلت‏:‏ وكذلك رآهم النبي- عليه الصلاة والسلام- ليلة المعراج‏.‏

‏{‏والسابقون السابقون‏}‏ مبتدأ وخبر، على معنى تعظيم الأمر وتفخيمه؛ لأنّ المبتدأ إذا أُعيد بنفسه خبراً دلَّ على التفخيم، كقوله الشاعر‏:‏

أنا أبو النَّجْمِ وشِعْري شِعْري *** والمعنى‏:‏ والسابقون هم الذين اشتهرت أحوالُهم، وعُرفت محاسنهم، أو‏:‏ والسابقون إلى الخيرات هم السابقون إلى الجنات، وقال أبو السعود‏:‏ الذي تقتضيه جزالة النظم أنَّ «أصحاب الميمنة»‏:‏ خبر مبتدأ محذوف، وكذا قوله تعالى‏:‏ ‏{‏والسابقون‏}‏ فإنَّ المترقب عند بيان انقسام الناس إلى الأقسام الثلاثة بيان أنفس الأقسام، وأمّا أوصافها وأحوالها فحقها أن تُبين بعد ذلك بإسنادها إليه، والتقدير‏:‏ فأحدها أصحاب الميمنة، والآخر أصحاب المشئمة، والثالث السابقون‏.‏ ثم أطال الكلام في ذلك، فانظره‏.‏

واختُلف في تعيينهم، فقيل‏:‏ هم الذين سبقوا إلى الإيمان، وإيضاحه، عند ظهور الحق من غير تلعثم ولا توان، وقيل‏:‏ الذين سبقوا في حيازات الفضائل والكمالات، وقيل‏:‏ هم الذي صلُّوا إلى القبلتين، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏والسابقون الأولون مِنَ المهاجرين والأنصار‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 100‏]‏ وقيل‏:‏ السابقون إلى الصلوات الخمس، وقيل‏:‏ المسارعون في الخيرات‏.‏ والتحقيق‏:‏ أنهم السابقون إلى الله بالمجاهدة والمكابدة، حتى أفضوا إلى مقام المشاهدة، وهو مقام الإحسان‏.‏

‏{‏أولئك المقرَّبون‏}‏ أشار إليهم بإشارة البُعد مع قُرب العهد؛ للإيذان ببُعد منزلتهم في الفضل والشرف، أي‏:‏ أولئك السابقون إلى الله هم المقربون إلى الله في الكرامة والتعظيم، الذي تلي درجاتهم درجات الأنبياء، وهم ‏{‏في جنات النعيم‏}‏ أي‏:‏ ذات التنعُّم، فتَصْدق بالفردوس، التي هي مسكن المقربين، وإنما أخَّر ذكر السابقين مع كونهم أحق بالتقدُّم في الذكر؛ ليقترن ذكرهم ببيان محاسن أحوالهم، ويتخلّص إلى ذكر نعيمهم الآتي، على أنّ إيرادهم بعنوان المسبق مطلقاً مُعْرِبٌ عن إحرازهم لقصب السبق من جميع الأمور‏.‏

الإشارة‏:‏ إذا وقعت الحقيقة المتوقعة للمتوجهين؛ كان من العلوم والأسرار ما لا تُحيط به عامة الأفكار، ووقوع الحقيقة‏:‏ برزوها معهم، وإشراق أنوارها على قلوبهم، فتفنى الكائنات وتضمحل الرسوم والإشارات، ويبقى الحيّ القيوم وحده، كما كان وحده، ليس لوقعتها كاذبة؛ لا كذب في وقوعها، ولا شك في إظهارها على مَن توجه إليها، وصَحِبَ أهلها، وحطّ رأسه لأربابها، وامتثل كل ما يأمرونه به، خافضة لمن توجه إليها، وَوَصَلَ لأنوارها، وتحقق بأسرارها‏.‏ يعني‏:‏ هكذا شأنها في الجملة، تخفض قوماً وترفع آخرين، وإنما تقع لمَن توجه إليها إذا رُجت أرض النفوس منه رجّاً، أي‏:‏ تحركت واضطربت، بمنازلة الأحوال، وارتكاب الشدائد والأهوال، وتوالي الأذكار، والاضطراب في الأسفار، فإنَّ كُمون سرها في الإنسان كَكمُون الزبد في اللبن، فلا بد من مخضه لاستخراج زُبده‏.‏ وبُست جبال العقل منه بسّاً، فكانت هباءً مُنبثاً؛ لأنّ نور العقل يتغطّى بنور شمس العرفان، ويضمحل كما يضمحل نور القمر إذا طلعت الشمس، وكنتم أيها الطالبون المتوجهون أصنافاً ثلاثة‏:‏ قومٌ توجهوا إليها، ثم قنعوا بما برز لهم من شعاع أنوارها، وهم عامة المتوجهين‏.‏ وقوم استشرفوا عليها فلم يطيقوا أنوارها، فرجعوا القهقرى، وهم أهل الحرمان، من أهل المشأمه‏.‏ وقوم أدركوها، وتحققوا بها ذوقاً وكشفاً، ففنوا وبقوا، سَكروا وصحوا، وهم السابقون المقربون في جنات المعارف، ونعيم الشهود، أبداً سرمداً، جعلنا من خواصهم آمين، وسيأتي إن شاء الله في آخر السورة تحقيق الفرق بين المقربين وأصحاب اليمين‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏13- 26‏]‏

‏{‏ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ ‏(‏13‏)‏ وَقَلِيلٌ مِنَ الْآَخِرِينَ ‏(‏14‏)‏ عَلَى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ ‏(‏15‏)‏ مُتَّكِئِينَ عَلَيْهَا مُتَقَابِلِينَ ‏(‏16‏)‏ يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ ‏(‏17‏)‏ بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ ‏(‏18‏)‏ لَا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلَا يُنْزِفُونَ ‏(‏19‏)‏ وَفَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ ‏(‏20‏)‏ وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ ‏(‏21‏)‏ وَحُورٌ عِينٌ ‏(‏22‏)‏ كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ ‏(‏23‏)‏ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ‏(‏24‏)‏ لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا تَأْثِيمًا ‏(‏25‏)‏ إِلَّا قِيلًا سَلَامًا سَلَامًا ‏(‏26‏)‏‏}‏

يقول الحق جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏ثُلّةٌ‏}‏ أي‏:‏ هم ثلة، أي‏:‏ جماعة كثيرة ‏{‏من الأولين‏}‏ والثُلة‏:‏ الأمة الكثيرة من الناس، ‏{‏وقليل من الآخِرين‏}‏ ممن يتأخر من هذه الأمة، والمعنى‏:‏ أن السابقين في أول الأمة المحمدية كثير، وفي آخرها قليل، وذلك أنَّ صدر هذه الأمة كَثُر فيها خير، وظهرت فيها أنوار وأسرار، وخرج منها جهابذة من العلماء والأولياء، بخلاف آخرها، السابقون فيها قليلون بالنسبة إلى عامة أهل اليمين، ويُؤيد هذا قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «خير القرون قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم»، وصرّح في حديث آخر أنهم جميعاً من أمته، فقال‏:‏ «الفرقتان من أمتي»، فسابق أول الأمة ثلة، وسابق سائرها إلى يوم القيامة قليل‏.‏ ه‏.‏ من الثعالبي‏.‏ وقيل‏:‏ المراد بالأولين‏:‏ الأمم الماضية، والآخرين‏:‏ الأمة المحمدية، وهو بعيد أو فاسدٌ، واقتصر في نوادر الأصول على أنَّ الثلة الأنبياء، وخُتموا بمحمد صلى الله عليه وسلم ومِنْ بعده الأولياء، وعددهم قليل في كل زمان‏.‏ ه‏.‏ وفي المَحلِّي هنا تخليط‏.‏ انظر الحاشية‏.‏

‏{‏على سُرُرٍ‏}‏ جمع سرير، ‏{‏موضونةٍ‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ «مرمولة»، أي‏:‏ منسوجة بقضبان الذهب، وقضبان اللؤلؤ الرطب، طولُ السرير‏:‏ ثلاثمائة ذراع، فإذا أراد الجلوس تواضع، فإذا استوى عليه ارتفع، ‏{‏متكئين عليها‏}‏ حال من الضمير في الظرف، وهو العامل فيه، أي‏:‏ استقروا على سُرر متكئين عليها اتكاء الملوك على الأَسِرة، ‏{‏متقابلين‏}‏ ينظر بعضهم في وجوه بعض، ولا ينظر بعضهم من أقفاء بعض‏.‏ وُصفوا بحسن العِشْرة، وتهذيب الأخلاق، وصفاء المودة‏.‏ وهو أيضاً حال‏.‏

‏{‏يطوف عليهم‏}‏ يَخدمهم ‏{‏وِلدانٌ‏}‏ غلمان، جمع وليدٍ، ‏{‏مُخلَّدون‏}‏ مُبْقَّوْنَ أبداً على شكل الولدان، لا يتحولون عنه إلى الكِبَر، وقيل‏:‏ مقرَّطون، والخِلَدَةُ‏:‏ القُرْط، وهو ما يلقى في الأذن من الأخراص وغيرها‏.‏ قيل‏:‏ هم أطفال أهل الدنيا، لم يكن لهم حسنات يُثابون عليها، ولا سيئات يعاقبون عليها‏.‏ وفي الحديث‏:‏ «أولاد الكفار خُدّام أهل الجنة» وهذا هو الصحيح‏.‏ ‏{‏بأكوابٍ‏}‏ جمع كوب، وهو آنية لا عروة لها ولا خرطوم، ‏{‏وأباريقَ‏}‏ جمع إبريق، وهو ما له خرطوم وعروة، ‏{‏وكأسٍ‏}‏ أي‏:‏ قدح فيه شراب، فإن لم يكن فيه شراب فلا يُسمى كأساً، ‏{‏من مَعينٍ‏}‏ من خمر، يجري من العيون، ‏{‏لا يُصَدَّعون عنها‏}‏ أي‏:‏ بسببها، أي‏:‏ لا يصدر عنها صُداع، وهو وجع الرأس، ‏{‏ولا يُنزَفُونَ‏}‏ ولا يسكرون، يقال‏:‏ نزَف الرجل‏:‏ ذهب عقله بالسُكر، فهو نزيف ومنزوف‏.‏ وقرأ أهل الكوفة بضم الياء وكسر الزاي، أي‏:‏ لا ينفذ شرابهم، يقال‏:‏ أُنزف القوم‏:‏ إذا نفد شرابهم‏.‏ وفي الحديث‏:‏ «زَمزمُ لا تُنْزَفُ ولا تُذَمّ» أي‏:‏ لا ينفذ ماؤها‏.‏

‏{‏وفاكهةٍ مما يتَخيَّرون‏}‏ أي‏:‏ يختارونه ويأخذون خيره وأفضله، يجنونه بأيديهم، وهو أشد نعيماً وسروراً من أخذه مجنياً، ‏{‏ولحم طيرٍ مما يشتهون‏}‏ مما يتمنون مشوياً أو مطبوخاً، ‏{‏وحُورٌ عِينٌ‏}‏ أي‏:‏ وفيها حور عين، أو‏:‏ لهم حور عين، ويجوز أن يعطف على «ولدان» أي‏:‏ وتخدمهم حُور عين، زيادة في التعظيم، ومَن قرأ بالخفض عطفه على «جنات النعيم» كأنه قيل‏:‏ هم في جنات النعيم وفاكهة ولحم طير وحور ‏{‏كأماثلِ اللؤلؤ المكنونِ‏}‏ في الصفاء والنقاء‏.‏

والمكنون‏:‏ المصون في صَدفه‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ كأمثال الدُرِّ حين يخرج من صدفه، لم يُغيرّه الزمان واختلاف الأيدي عليه، ‏{‏جزاء بما كانوا يعملون‏}‏ مفعول له، أي‏:‏ يفعل بهم ذلك لجزاء أعمالهم الصالحة أو‏:‏ مصدر، أي‏:‏ يُجزَون جزاء، فنفس الدخول للجنة بمحض الرحمة، وكثرة النعيم والغُرف بالعمل، والترقي باليقين والمعرفة- والله تعالى أعلم- فلا تعارض‏.‏

‏{‏لا يَسْمَعون فيها‏}‏ في الجنة ‏{‏لَغواً‏}‏ باطلاً ‏{‏ولا تأثيماً‏}‏ هذياناً، أو‏:‏ ما يُؤهم صاحبه لو كف، ‏{‏إِلاَّ قِيلا‏}‏ أي‏:‏ قولاً ‏{‏سلاماً سلاماً‏}‏ أي‏:‏ ذا سلامة‏.‏ والاستثناء منقطع، و«سلاماً» بدل من «قيلاً» أو‏:‏ مفعول به ل «قيلاً»، أي‏:‏ لا يسمعون فيها إلا أن يقولوا سلاماً سلاماً، والمعنى‏:‏ أنهم يُفشون السلام فيُسَلِّمون سلاماً بعد سلام، أو‏:‏ لا يسمع كلٌّ من المسلِّم والمسلِّم عليه إلا سلام الآخر بدءاً ورداً‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

الإشارة‏:‏ أخبر تعالى أنّ المقربين في الصدر الأول أكثر من الزمان الأخير، وهو كذلك من جهة الكمية، وأما من جهة الكيفية فالمقربون في آخر الزمان أعظم رتبةً، وأوسع علماً وتحقيقاً؛ لأنهم نهضوا في زمان الغفلة، وجدُّوا في زمان الفترة، لم يجدوا من أهل الجدّ إلا قليلاً، ولا من أهل الحق إلا نذراً يسيراً، فحيث نهضوا وحدهم عوّضهم الله مرتبة لم يعطها لغيرهم، ويشهد لهذا قوله عليه السلام‏:‏ «اشتقت إلى إخواني» قال أصحابه، نحن إخوانك يا رسول الله‏؟‏ قال‏:‏ «أنتم أصحابي، إخواني قوم يأتون بعدي، مِن نعتهم كذا وكذا» ثم قال‏:‏ «يعدل عمل واحد منهم سبعين منكم» قالوا‏:‏ يا رسول الله منهم‏؟‏ قال‏:‏ «منكم» قيل‏:‏ بماذا يا رسول الله‏؟‏ قال‏:‏ «إنكم وجدتم على الخير أعواناً، وهم لم يجدوا عليه أعواناً» وفي حديث آخر، رواته ثقات‏:‏ قالوا‏:‏ يا رسول الله؛ هل أحد خير منا‏؟‏ قال‏:‏ «قوم يجيئون بعدكم، فيجدون كتاباً بين لوحين، يؤمنون بما فيه، ويؤمنون بي، ولم يروني، ويُصَدِّقون بما جئتُ به، ويعملون به، فهم خير منكم»، ولا يلزم من تفضيلهم مِن جهةٍ تفضيلهم مطلقاً‏.‏

ثم وصف المقرّبين بكونهم على سُرر الهداية، منسوجة بالعِز والعناية، محفوفة بالنصر والرعاية، متكئين عليها، راسخين فيها، متقابلين في المقامات والأخلاق، أي‏:‏ يواجه بعضهم بعضاً بقلوبهم وأسرارهم، لا تَباغض بينهم ولا تحاسد، تطوف عليهم الأكوان وتخدمهم، «أنت مع الأكوان ما لم تشهد المُكوّن، فإذا شهدت المُكوِّن كانت الأكوان معك»‏:‏ يُسقون بأكوابٍ وأباريق من علم الطريق، وكأس من خمر الحقيقة، فلا يتصدّعون من أجلها؛ إذ ليست كخمر الدوالي، ولا يُنزفون‏:‏ لا يسكرون سُكْر اصطلام، وإنما يسكرون سُكراً مشوباً بصَحْوٍ، إذا كان الساقي عارفاً ماهراً‏.‏

وفاكهة؛ حلاوة الشهود، مما يتخيرون، إن شاؤوا بالفكرة والنظرة، وإن شاؤوا بالذِكر والمذاكرة، وكان بعض أشياخنا يقول‏:‏ خمرة الناس في الحضرة، وخمرتنا في الهدرة، أي‏:‏ المذاكرة‏.‏ ولحم طير من علوم الطريقة والشريعة، مما يشتهون منها، وحُورق عِين من أبكار الحقائق، مصونة عن غير أهلها، كأمثال اللؤلؤ المكنون، جزاء على مجاهدتهم ومكابدتهم‏.‏ لا يسمعون في جنة المعارف لغواً ولا تأثيماً؛ لتهذيب أخلاق أهلها، كما قال ابن الفارض رضي الله عنه‏:‏

تُهذّبُ أخلاقَ النّدامى، فيَهْتدي *** بها لطريقه العزم مَن لا له عَزْم

ويكرُمُ مَن لا يَعْرف الجودَ كَفّثه *** ويحلُمُ عند الغيظ مَن لا له حِلم

فلا تسمع من الصوفية إِلا قيلاً سلاماً سلاماً، كما قيل في حقيقة التصوُّف‏:‏ أخلاقٌ كرام، ظهرت من قوم كرام، في زمن كريم‏.‏ ه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏27- 40‏]‏

‏{‏وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ ‏(‏27‏)‏ فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ ‏(‏28‏)‏ وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ ‏(‏29‏)‏ وَظِلٍّ مَمْدُودٍ ‏(‏30‏)‏ وَمَاءٍ مَسْكُوبٍ ‏(‏31‏)‏ وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ ‏(‏32‏)‏ لَا مَقْطُوعَةٍ وَلَا مَمْنُوعَةٍ ‏(‏33‏)‏ وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ ‏(‏34‏)‏ إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً ‏(‏35‏)‏ فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا ‏(‏36‏)‏ عُرُبًا أَتْرَابًا ‏(‏37‏)‏ لِأَصْحَابِ الْيَمِينِ ‏(‏38‏)‏ ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ ‏(‏39‏)‏ وَثُلَّةٌ مِنَ الْآَخِرِينَ ‏(‏40‏)‏‏}‏

يقول الحق جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏وأصحابُ اليمين ما أصحابُ اليمين‏}‏ استفهام تعجيب، تفخيماً لحالهم، وتعظيماً لشأنهم، ثم ذكر نعيمهم فقال‏:‏ ‏{‏في سِدْرٍ مَّخْضُودٍ‏}‏ والسدر‏:‏ شجر النبق، والمخضود‏:‏ الذي لا شوك له، كأنه خُضِد شوكه، أي‏:‏ قُطع، أي‏:‏ ليس هو كسِدر الدنيا، وقيل‏:‏ مخضود، أي‏:‏ ثنى إغصانه من كثرة حمله، من خَضَدَ الغصن‏:‏ إذا ثناه وهو رطب‏.‏ قال ابن جُبَيْر‏:‏ ثمرها أعظم من القلال، وثمار الجنة كلها بادية، ليس شيء منها في غلاف‏.‏ رُوي أنَّ المسلمين نظروا إلى وادٍ بالطائف مخصب، فأعجبهم سِدرها، وقالوا‏:‏ يا ليت لنا مثله في الجنة، فنزلت، وقال أمية بن أبي الصلت في وصف الجنة‏:‏

إنَّ الحَدائِقَ في الجِنان ظَلِيلةٌ *** فيها الكواعِبُ، سِدْرُهَا مَخْضُودُ

‏{‏وطَلْحٍ مَّنضُودٍ‏}‏ الطلح‏:‏ شجرة الموز، والنضود‏:‏ الذي نضد بالحمل من أسفله إلى أعلاه، فليست له ساق بارزة، وفي جامع العُتْبية عن مالك، قال‏:‏ بلغني أنّ الطلح المنضود، المذكور في الآية، هو الموز، وهو مما يشبه ثمار الجنة، لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أُكُلُهَا دَآئِمٌ‏}‏ ‏[‏الرعد‏:‏ 35‏]‏، والموز يؤكل في الشتاء والصيف‏.‏ ه‏.‏

‏{‏وظِلّ ممدودٍ‏}‏ منبسط، لا يتقلص ولا ينقطع، كظل ما بين طلوع الفجر وطلوع الشمس‏.‏ ‏{‏وماءٍ مسكوبٍ‏}‏ جارٍ بلا أُخدود، يُسْكَب لهم أين شاؤوا، وكيف شاؤوا، بلا تعب‏.‏ ‏{‏وفاكهةٍ كثيرةٍ‏}‏ بحسب الأنواع والأجناس، ‏{‏لا مقطوعةٍ‏}‏ لا تنقطع في بعض الأوقات، كفواكه الدنيا، بل هي دائمة، ‏{‏ولا ممنوعةٍ‏}‏ عن تناولها بوجه من الوجوه، أو‏:‏ لا يحظر عليها، كبساتين الدنيا، أو‏:‏ لا مقطوعة بالأزمان، ولا ممنوعة بالأثمان‏.‏

‏{‏وفُرُشٍ مرفوعةٍ‏}‏ رفيعة القدر، أو‏:‏ مرفوعة على الأسرَّة، وارتفاع السرير خمسمائة سنة، وقيل‏:‏ كنّى بالفُرُش عن النساء؛ لأنَّ المرأة يُكنّى عنها بالفراش، مرفوعة على الأرائك، قال تعالى‏:‏ ‏{‏هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِى ظَلاَلٍ عَلَى الأَرَآئِكِ مُتَّكِئُونَ‏}‏ ‏[‏يس‏:‏ 65‏]‏، ويؤيده قوله‏:‏ ‏{‏إِنَّا أنشأناهن إِنشاءً‏}‏ أي‏:‏ ابتدأنا خلقهن ابتداءً من غير ولادة‏.‏ فإما أن يُراد‏:‏ اللاتي ابتدئ إنشاؤهن، وهن الحور، أو‏:‏ اللاتي أُعيد إنشاؤن، وهن نساء الدنيا، وعلى غير هذا التأويل أضمر لهنّ؛ لأنّ ذكر الفُرش، وهي المضاجع، دلَّ عليه‏.‏ ‏{‏فجعلناهن أبكاراً‏}‏ أي‏:‏ عذارى، كلما أتاهنَ أزواجهنَ وجدوهنَ أبكاراً‏.‏ ‏{‏عُرُباً‏}‏ جمع عَرُوب، وهي المحبّبة لزوجها، الحسنة التبعُّل، ‏{‏أتراباً‏}‏‏:‏ مستويات في السنّ، بنات ثلاثٍ وثلاثين، وأزواجهنّ كذلك‏.‏ ‏{‏لأصحاب‏}‏ أي‏:‏ أنشأناهن أصحاب ‏{‏اليمين‏}‏‏.‏

‏{‏ثُلةٌ‏}‏ أي‏:‏ أصحاب اليمين ثلة‏:‏ جماعة كثيرة ‏{‏من الأولين‏}‏، ‏{‏وثُلة‏}‏ وجماعة كثيرة ‏{‏من الآخرِين‏}‏ فالسابقون كثيرون من الأولين وقليل من الآخرين، وأصحاب اليمين كثيرون من الأولين والآخرين‏.‏ هذا المتعين في تفسير الآية‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

الإشارة‏:‏ أصحاب اليمين هم أهل الحجاب، المحصورون في سجن الأكوان، المحيط بهم دوائر حسهم، من العُبّاد والزُهّاد، والعُلماء بالشرائع، والصالحين الأبرار، وعامة المسلمين‏.‏ هم في سدر مخضود؛ كثرة الأعمال المخضودة من شوك الرياء والعجب، المنزهة من الفتور والقصور، وطلح منضود؛ حلاوة الطاعات، وتحقيق المقامات، وظِلٍّ ممدود؛ ظل راحة القناعة لمَن أُعطيها، وروح الرضا والتسليم لمَن منحه‏.‏

وماء مسكوب؛ عِلْم التوحيد البرهاني أو الإلهامي، وفاكهة كثيرة‏:‏ حلاوة المناجاة، وظهور الكرامات، ولذة التفنُّن في العلوم الرسمية، لا مقطوعة ولا ممنوعة لمَن رسخ فيها‏.‏ وفُرش مرفوعة؛ تفاوت درجاتهم على حسب أعمالهم‏:‏ إنّا أنشأناهن إنشاءً، لكل فريق مما تقدم، زيادة في عمله، أو علمه، أو زهده، على ما يليق بحاله، فكل صنفٍ له تَرقٍّ في فنه وزيادة في محله‏.‏ فجعلناهن أبكاراً؛ لأن كل زيادة تكون جديدة لم يعهدها صاحبها، عُرباً يعشقها وتعشقه، أتراباً، تكون على قدر حاله وفهمه وذوقه‏.‏ هذا لعامة أصحاب اليمين، وهم كثيرون، سَلفاً وخَلفاً‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏41- 57‏]‏

‏{‏وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ ‏(‏41‏)‏ فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ ‏(‏42‏)‏ وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ ‏(‏43‏)‏ لَا بَارِدٍ وَلَا كَرِيمٍ ‏(‏44‏)‏ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ ‏(‏45‏)‏ وَكَانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ ‏(‏46‏)‏ وَكَانُوا يَقُولُونَ أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ ‏(‏47‏)‏ أَوَآَبَاؤُنَا الْأَوَّلُونَ ‏(‏48‏)‏ قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآَخِرِينَ ‏(‏49‏)‏ لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ ‏(‏50‏)‏ ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ ‏(‏51‏)‏ لَآَكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ ‏(‏52‏)‏ فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ ‏(‏53‏)‏ فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ ‏(‏54‏)‏ فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ ‏(‏55‏)‏ هَذَا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ ‏(‏56‏)‏ نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ فَلَوْلَا تُصَدِّقُونَ ‏(‏57‏)‏‏}‏

يقول الحق جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏وأصحابُ الشمال ما أصحابُ الشمال‏}‏ تفظيع لشأنهم، والشمال والمشأمة واحد‏.‏ ‏{‏في سَمُوم‏}‏ في حرّ نار تنفذ في المسامّ، ‏{‏وحميم‏}‏ وماء حارّ، تناهي في الحرارة، ‏{‏وظِلٍّ من يَحْمُوم‏}‏ من دخان أسود بهيم، ‏{‏لا باردٍ‏}‏ كسائر الظلال، ‏{‏ولا كريم‏}‏ فيه خير مّا في الجملة، سمّاه ظلاًّ، ثم نفى عنه برد الظل ورَوْحَه ونفعَه لمَن يأوي إليه من أذى الحر، وذلك كرمه- ليمحي عنه ما في مدلول الظل من الاسترواح إليه، والمعنى‏:‏ أنه ظلٌّ حار ضارّ‏.‏

‏{‏إِنهم كانوا قبل ذلك‏}‏ أي‏:‏ في الدنيا ‏{‏مُتْرَفِينَ‏}‏ منعّمين بأنواع النِعَم، من المآكل والمشارب، والمساكن الطيبة، والمقامات الكريمة، منهمكين في الشهوات، فمَنَعَهم ذلك من الانزجار، وشَغَلَهم عن الاعتبار‏.‏ وهو تعليل لابتلائهم بما ذكر من العذاب، ‏{‏وكانوا يُصِرُّون‏}‏ يُداومون ‏{‏على الحِنْثِ العظيم‏}‏ أي‏:‏ على الذنب العظيم، وهو الشرك؛ لأنه نقض عهد الميثاق، وخروج عن طاعة الملك إلى نصر غيره‏.‏ والحنث‏:‏ نقض العهد الموثّق باليمين، أو‏:‏ الكفر بالبعث، لقوله‏:‏ ‏{‏وَأَقْسَمُواْ بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لاَ يَبْعَثُ اللَّهُ مَن يَمُوتُ‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 38‏]‏، ثم صار يُطلق على مطلق الذنب، ومنه‏:‏ بلغ الغلامُ الحنث، أي‏:‏ وقت الحلم ووقت المؤاخذة بالذنب‏.‏

‏{‏وكانوا يقولون‏}‏ لغاية عتوهم‏:‏ ‏{‏أئِذا مِتْنَا وكنا تراباً وعظاماً‏}‏ أي‏:‏ إذا صارت أجزاؤنا من الجلد والعظم واللحم، بعضها تراباً، وبعضها عظاماً نخرة، نُبعث بعد ذلك‏؟‏ وتقديم التراب لعراقته في الاستبعاد وانقلابها حيواناً‏.‏ والعامل في «إذا» ما دلّ عليه قوله‏:‏ ‏{‏أئنا لمبعوثون‏}‏ أي‏:‏ أنْبعث إذا صرنا في هذه الحالة‏؟‏ ولا يعمل فيه لفظه؛ لأنّ «إنّ» والاستفهام لا يعمل ما بعدها فيما قبلهما، ‏{‏أَوَ آباؤنا الأولون‏}‏ يُبعثون أيضاً‏؟‏ دخلت همزة الاستفهام على حرف العطف، وحسن العطف على المضمر في ‏{‏لمبعوثون‏}‏ من غير توكيدٍ ب «نحن» للفاصل الذي هو الهمزة، يعنون بذلك‏:‏ أن بعث آبائهم أبعد في الوقوع من بعثهم‏.‏ وقرئ في السبع بأو العاطفة‏.‏

ثم ردّ عليهم بقوله‏:‏ ‏{‏قل إِنّ الأولين والآخِرين‏}‏ أي‏:‏ إنّ الأولين من الأمم المتقدمين، الذين من جملتهم آباؤكم، والآخرين، الذين من جملتهم أنتم‏.‏ وفي تقديم «الأولين» مبالغة في الرد، حيث كان إنكارهم لبعث آبائهم أشد مع مراعاة الترتيب، ‏{‏لمجموعون‏}‏ بالبعث ‏{‏إِلى ميقاتٍ يومٍ معلوم‏}‏ أي‏:‏ إلى ما وقتت به الدنيا باعتبار فنائها من يوم معلوم، وهو يوم البعث والحساب، والإضافة بمعنى «من» كخاتم فضة‏.‏

‏{‏ثم إِنكم أيها الضالون‏}‏ عن الهدى ‏{‏المكذِّبون‏}‏ بالبعث، والخطاب لأهل مكة وأضرابهم، ‏{‏لآكلون‏}‏ بعد البعث والجمع ودخول جهنم ‏{‏مِن شجرٍ مِن زقوم‏}‏ «مِن» الأولى‏:‏ لابتداء الغاية، والثانية‏:‏ لبيان الشجر‏.‏ ‏{‏فمالئُون منها البطونَ‏}‏ أي‏:‏ بطونكم من شدة الجوع، ‏{‏فشاربون عليه‏}‏ عقب ذلك بلا ريث ‏{‏من الحميم‏}‏ الماء الحار‏.‏

أنّث ضمير الشجر على المعنى، وذكَّره على اللفظ في «منها» و«عليه»‏.‏ ‏{‏فشاربون شُرْبَ الهِيم‏}‏ وهي الإبل التي بها الهُيَام، وهو داء يُصيبها فتشرب ولا تروَى، أي‏:‏ لا يكون شربكم شراباً معتاداً، بل يكون مثل شرب الإبل الهيم، واحدها‏:‏ «هيماء وأَهْيَم» وحاصل الآية‏:‏ أنه يُسلط عليهم من الجوع ما يضطرون إلى شرب الحميم، الذي يُقَطِّع أمعاءهم، فيشربونه شرب الهِيم، وإنما صحّ عطف الشاربين على الشاربين، وهما لذوات متّفقة، لأنَّ كونهم شاربين الحميم مع ما هو عليه من تناهي الحرارة، وقطع الأمعاء، أمر عجيب، وشربهم له على ذلك كشرب الهِيم الماء أمر عجيب أيضاً، فكانت صفتين مختلفتين‏.‏

‏{‏هذا نُزلُهم‏}‏ النُزل‏:‏ هو الرزق الذي يُعدّ للنازل تكرمةً له، ‏{‏يَوْمَ الدَّينِ‏}‏ يوم الجزاء، فإذا كان نُزلهم هذا، فما ظنك بعدما استقر بهم القرار، واطمأنت بهم الدار في النار‏؟‏ وفيه من التهكُّم ما لا يخفى‏.‏

‏{‏نحن خلَقناكم فلولا‏}‏ فلاّ ‏{‏تُصَدِّقُونَ‏}‏ تحضيض على التصديق، إمَّا بالخَلق؛ لأنهم وإن كانوا مصدّقين به إلاّ أنه لمّا كان مذهبهم خلاف ما يقتضيه التصديق فكأنهم مكذّبون به، وإمّا بالعبث؛ لأنّ مَن خلَق أولاً لم يمتنع عليه أن يَخلق ثانياً‏.‏

الإشارة‏:‏ أصحاب الشمال هم أهل الخذلان من العصاة والجُهال، في سَموم الجهل والبُعُد، ينفذ في مسام أرواحهم وقلوبهم، وحميم الحرص والتعب، والجزع والهلع، وظِلٍّ من يحموم، وهو التدبير والاختيار، لا بارد ولا كريم، أي‏:‏ ليس كظل الرضا وبرد التسليم، بل هو ظل مشؤوم، حاجب عن شمس العيان، مُوقع في ظل الذل والطمع والهوان‏.‏ إنهم كانوا قبل ذلك؛ قبل وقت وصول العارفين مُترفين متنعمين في الحظوظ، منهمكين في الشهوات، وكانوا يُصِرُّون على الحنث العظيم، وهو حب الدنيا، الذي هو رأس كل خطيئة، وكانوا يُنكرون بعث الأرواح من الجهل إلى العرفان، ويقولون‏:‏ ‏{‏أئذا متنا وكنا تراباً‏}‏، أي‏:‏ أرضيين بشريين، وعظاماً يابسين بالقسوة والبُعد، ‏{‏أئنا لمبعوثون‏}‏ من هذه الموتة إلى حياة أرواحنا بالعلم والمعرفة‏؟‏ والحاصل‏:‏ أنهم كانوا ينكرون وجود أهل التربية؛ الذي يُحيي اللّهُ بهم القلوبَ والأرواحَ الميتة بالجهل والغفلة‏.‏ قل إنَّ الأولين منكم الذين كانوا على هذا الوصف، والآخرين إلى يوم القيامة، لمجموعون إلى الحضرة، إذا صَحِبوا أهل التربية، فيفتح الله عليهم إلى ميقات يوم معلوم، وهو الحد الذي سبق لفتحهم‏.‏ ثم إنكم أيها الضالون المكذّبون المنكِّرون لوجود الطبيب، الذي يُحيي الأرواح الميتة والقلوب، ‏{‏لآكلون من شجر من زقوم‏}‏ وهي شجرة الجهل وتوارد الشكوك والخواطر على قلوبكم، فمالئون منها بطونكم، بحيث لا يبقى في بواطنكم متسع لأنوار اليقين والمعرفة، فشاربون على ذلك من الحميم، وهو الغضب والتدبير والاختيار، ‏{‏فشاربون شُرب الهيم‏}‏، لا يملُّون منه ليلاً ولا نهاراً، كذا يَظلُّون يَبنون ويَهدمون، وهو عين البطالة والتضييع‏.‏ ‏{‏هذا نُزلهم يوم الدين‏}‏، أي‏:‏ يوم يُجازِي الحقُّ المتوجهين إليه بالوصال وراحة الاتصال‏.‏ ‏{‏نحن خلقناكم‏}‏‏:‏ أنشأناكم من العدم، فلولا تُصدِّقون في إحياء أرواحكم بالعلم والمعرفة بعد موتها، فإنّ القادر على إنشاء الأشباح قادر على إحياء الأرواح‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏58- 74‏]‏

‏{‏أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ ‏(‏58‏)‏ أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ ‏(‏59‏)‏ نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ ‏(‏60‏)‏ عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لَا تَعْلَمُونَ ‏(‏61‏)‏ وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولَى فَلَوْلَا تَذَكَّرُونَ ‏(‏62‏)‏ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ ‏(‏63‏)‏ أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ ‏(‏64‏)‏ لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ ‏(‏65‏)‏ إِنَّا لَمُغْرَمُونَ ‏(‏66‏)‏ بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ ‏(‏67‏)‏ أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ ‏(‏68‏)‏ أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ ‏(‏69‏)‏ لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ ‏(‏70‏)‏ أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ ‏(‏71‏)‏ أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِئُونَ ‏(‏72‏)‏ نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعًا لِلْمُقْوِينَ ‏(‏73‏)‏ فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ ‏(‏74‏)‏‏}‏

يقول الحق جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏أفرأيتم ما تُمْنُون‏}‏ أي‏:‏ تقذفونه في الأرحام من النُطف، ‏{‏أأنتم تخلقونه‏}‏ تُقدِّرونه وتُصورونه وتجعلونه بشراً سويّاً ‏{‏أم نحن الخالقون‏}‏ من غير علة ولا علاج «‏؟‏ قال الطيبي‏:‏ وجه الاستدلال بهذه الآية على البعث أن يُقال‏:‏ إنّ المَني إنما يحصل من فضلة الهضم، وهو كالطل المنبث في أطراف الأعضاء، وبهذا تشترك الأعضاء بالتذاذ الوقاع لحصول الانحلال عنها كلها، ثم إنّ الله سبحانه وتعالى يُسلط قوة الشهوة على البنية، حتى إنها تجمع تلك الأجزاء الطلّية، والحاصل أن تلك الأجزاء كانت مفْترقة جدّاً أولاً في أطراف العالم، ثم إنه تعالى جمعها في بدن ذلك الحيوان، فتفرّقت في أطراف بدنه، ثم جمعها الله في أوعية المَني، فأخرجها ماءً دافقاً إلى قرار الرحم، فإذا كان قادراً على جمع هذه الأجزاء المتفرقة، وتكوين الحيوان منها، فإذا افترقت بالموت مرة أُخرى؛ لم يمتنع عليها جمعها وتكوينها مرة أخرى‏.‏ ه‏.‏ وذَكَرَ عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يَخْرُجُ مِن بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَرَآئِبِ‏}‏ ‏[‏الطارق‏:‏ 7‏]‏ أنَّ المني يتولد من فضلة الهضم الرابع، وينفصل من جميع أجزاء البدن، فيأخذ من كل عضو طبيعته وخاصيته، ومعظمُهُ يتولد من الدماغ، وهو أعظم الأعضاء معنويةً فيه‏.‏ انظر بقيته في الحاشية‏.‏

‏{‏نحن قدَّرنا بينكم الموتَ‏}‏ أي‏:‏ قسمناه ووقّتنا موت كل أحد بوقت معين، حسبما تقتضيه قسمتنا، المبنية على الحِكَم البالغة‏.‏ قال القشيري‏:‏ فيكون في الوقت الذي نريده، منكم مَنْ يموت طفلاً، ومنكم مَن يموت شابّاً، وكهلاً وشيخاً، وبعللٍ مختلفة، وبأسباب متفاوتة، وأوقاتٍ مختلفة‏.‏ ه‏.‏ ‏{‏وما نحن بمسبوقين‏}‏ بعاجزين ‏{‏على أن نُبَدَّلَ أمثالَكم‏}‏ بل نحن قادرون على ذلك، لا تسبقونني ولا تغلبونني على أن نُذهبكم، ونأتي مكانكم بأشباهكم من الخلق، والتبديل يكون بالذات أو بالصفات، ‏{‏ونُنشِئَكم فيما لا تعلمون‏}‏ ونخلقكم بعد التبديل في صورة لا تعهدونها‏.‏ قال الحسن‏:‏ نجعلكم قردةً وخنازير، يعني‏:‏ إنَّا نقدر على الأمرين جميعاً، أي‏:‏ خلق ما يماثلكم وما لا يماثلكم فكيف نعجز عن إعادتكم‏.‏ و‏{‏أمثال‏}‏ إمّا جمع» مِثْل «بالسكون- وهو التبديل بالذات، أو‏:‏» مَثَل «بالفتح، وهو التبديل في الصفات، أي‏:‏ على أن نُبدّل ونُغيّر صفاتكم التي أنتم عليها، وننشِئَكم في صفات لا تعلمونها‏.‏ ‏{‏ولقد علمتم النشأةَ الأولى‏}‏ أي‏:‏ فطرة آدم عليه السلام‏:‏ أو‏:‏ خلقتهم من نطفة، ثم من علقة، ثم من مضغة‏.‏‏.‏‏.‏ الخ، ‏{‏فلولا تَذَكَّرُون‏}‏ فهلاَّ تذكرون أنْ مَن قدر عليها قدر على النشأة الأخرى‏.‏

ولمّا ذكّرهم بنعمة الإيجاد، ذكّرهم بنعمة الإمداد، فقال‏:‏ ‏{‏أفرأيتم ما تحرثون‏}‏ أي‏:‏ ما تبذرون حبه وتقلِبون الأرض عليه، ‏{‏أأنتم تزرعونه‏}‏ أن‏:‏ تُنبتونه وتُخرجونه من الأرض نباتاً ‏{‏أم نحن الزارعون‏}‏ المُنبِتون له‏؟‏ وفي الحديث‏:‏

«لا يقل أحدكم، زرعت، وليقل‏:‏ حرثت» ‏{‏لو نشاء لجعلناه حُطاماً‏}‏ هشيماً منكسِراً قبل إدراكه، ‏{‏فَظَلْتم‏}‏ بسبب ذلك ‏{‏تَفَكَّهُون‏}‏ تتعجَّبُون من سوء حاله إثر ما شهدتموه على أحسن ما يكون، أو‏:‏ تندمون على تعبكم فيه وإنفاقكم عليه، أو‏:‏ على ما اقترفتم من المعاصي التي أُصبتم لذلك من أجلها، و«تفكه» من أفعال الإزالة، كتخرّج، وتأثّم، أي‏:‏ أزال الفُكَاهة، وهي المسرة، فتحصل الندامة، ‏{‏إِنَّا لمُغْرَمُونَ‏}‏ أي‏:‏ قائلين‏:‏ إنّا لملزمون غرامةَ ما أنفقنا فيها، أو‏:‏ لمهلَكون لِهلاك قوتنا، من‏:‏ الغرام، وهو الهلاك، ‏{‏بل نحن محرومون‏}‏ حُرمنا ما رزقنا بشؤم تفريطنا، فالمحروم هو الممنوع الرزق‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ «هو المحارَف» الذي انحرف عنه رزقه‏.‏

‏{‏أفرأيتم الماءَ الذي تشربون‏}‏ أي‏:‏ الماء العذب الصالح للشرب، ‏{‏أأنتم أنزلتموه من المُزنِ‏}‏ السحاب الأبيض، وهو أعذب ماءٍ، أو مطلق السحاب، واحدها «مزنة»، ‏{‏أم نحن المنزلون‏}‏ بقدرتنا، فأسكناه في الأرض، ثم أخرجناه عيوناً وأنهاراً‏؟‏ ‏{‏لو نشاء جعلناه أُجَاجاً‏}‏ أي‏:‏ ملحاً، أو مُرّاً لا يُقْدَر على شربه، ‏{‏فلولا‏}‏ فهلاَّ ‏{‏تشكرون‏}‏ تحضيض على شكر الكل، وحذف اللام هنا مع إثباتها في الشرطية الأولى؛ لأنّ هذه اللام تُفيد معنى التأكيد، فأُدخلت في آية المطعوم دون المشروب؛ للدلالة على أن أمر المطعوم متقدم على أمر المشروب، وأنْ الوعيد بفقده أشد وأصعب، مِن قِبَل أنّ المشروب إنما يُحتاج إليه تبعاً للمطعوم، ولهذا قُدِّمت آية المطعوم على آية المشروب، وقيل غير ذلك في حكمة إدخالها‏.‏

‏{‏أفرأيتم النارَ التي تُورون‏}‏ أي‏:‏ تقدحونها وتستخرجونها من الزناد، والعرب كانت تقدح بعودين، تحك أحدهما على الآخر، ويُسمون الأعلى‏:‏ الزند، والسفلى‏:‏ الزندة، شبّهوهما بالفحل والطروقة‏.‏ ‏{‏أأنتم أنشأتم شجرتَهَا‏}‏ التي بها الزناد، وهي المرْخ والعَفَار، ‏{‏أم نحن المنشئون‏}‏ الخالقون لها ابتداءً بقدرتنا‏؟‏ والتعبير عن خلقها بالنشأ، المنبئ عن بديع الصنع، المُعْرِب عن كمال القدرة والحكمة؛ لِما فيه من الغرابة الفارقة بينهما وبين سائر الأشجار، التي لا تخلو عن النار، حتى قيل‏:‏ في كل شجر نار واستمجد المرخ والعَفَار، كما أنّ التعبير عن نفخ الروح بالإنشاء في قوله‏:‏ ‏{‏ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقاً ءَاخَرَ‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 14‏]‏ كذلك‏.‏

ثم بيَّن منافعها، فقال‏:‏ ‏{‏نحن جعلناها تذكرةً‏}‏ تذكيراً لنار جهنم، لينظروا إليها، ويذكروا ما وُعدوا به من نار جهنم، أو‏:‏ تذكرة وأنموذجاً، لما رُوي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ «نارُكم هذه التي يُوقدها بنو آدم هي جزءٌ من سبعين جزءاً من حَرِّ جهنم» وقيل‏:‏ تبصرة في أمر البعث؛ فإنه ليس أبدع من إخراج النار من الشيء الرطب، ‏{‏ومتاعاً للمُقْوين‏}‏ منفعة للمقوين المسافرين الذي ينزلون القِواء، وهو القفر‏.‏ وفي القاموس‏:‏ القِيُّ‏:‏ فقر الأرض، كالِقواء- بالكسر والمد‏:‏ القفر‏.‏ ه‏.‏ وتخصيصهم بذلك؛ لأنهم أحوج إليها؛ فإنّ المقيمين والنازلين بقرب منازلهم ليسوا بمضطرين إلى الاقتداح بالزناد، أو‏:‏ للذين خلت بطونهم ومزاودهم من الطعام، من قولهم‏:‏ أَقْوت الدار‏:‏ إذا خلت من ساكنها‏.‏

والأول أحسن‏.‏

بدأ أولاً بنعمة الإيجاد، ثم بإمداد الطعام، ثم بالشراب، وما يُعجن به من الطعام، ثم بما يطبخ به؛ فلا يؤكل الطعام إلاّ بعد هذه الثلاث، ولا يستغني عنه الجسد ما دام حيّاً في حكم العادة‏.‏

ولمَّا ذكر دلائل توحيده وقدرته، أمر بتنزيهه عمَّا لا يليق بحاله؛ لأنّ العقل إذا أدرك الصانع سما إلى درك كنهه، فربما يقع في التشبيه أو التجسيم أو التعطيل، فقال‏:‏ ‏{‏فَسَبِّح باسم ربك‏}‏ أي‏:‏ فنزّه ربك عما لا يليق به أيها المستمع المستدل، فأراد بالاسم المسمى، والباء صلة، أي‏:‏ نزَّه ربك ‏{‏العظيم‏}‏ أو‏:‏ نزّه ربك ملتبساً بذكر اسمه‏.‏ والعظيم‏:‏ صفة للرب، أو للاسم، لأن المراد به المسمى‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

الإشارة‏:‏ أفرأيتم أيها المشايخ ما تُمْنون من نُطف الإرادة في قلوب المريدين، أأنتم تخلقونه في قلوبهم حتى تنبت فيها بذرة الإرادة، وتهيج شجرة المحبة، فتُثمر بالمعرفة، أم نحن الخالقون‏؟‏ نحن قدّرنا بينكم الموت، فمنكم مَن يموت الموت الحسي أو المعنوي قبل الوصول، ومنكم مَن يموت بعد الوصول، والموت المعنوي‏:‏ هو الرجوع عن السير، ولا يكون إلاَّ قبل الوصول، وما نحن بمسبوقين على أن نُبدل أمثالكم، ونُغيّر صفاتكم، فإنّ القلوب بيد الله، وننشئكم فيما لا تعلمون من الجهل والبُعد‏.‏ ولقد علمتم النشأة الأولى، التي كنتم عليها حال الغفلة والبطالة قبل ملاقاة الرجال، أفلا تذكرون فتشكرون على نعمة اليقظة والمعرفة‏.‏

أفرأيتم ما تحرثون من الأعمال والأحوال والمجاهدات والرياضات، أأنتم تزرعونه، أي‏:‏ تُنبتونه حتى يُقبل منكم، وتجنون ثماره، أم نحن الزارعون‏؟‏ لو نشاء لأبطلناه ورددناه فنجعله هباءً منثوراً، فظلتم تندمون على ما فات منكم من المشاق، حيث لم تجنوا ثمرتها، تقولون‏:‏ إنّا لمغرمون، حيث افتقرنا ودفعنا أموالنا في حال الجذبة الأولى، بل نحن محرمون من ثمار مجاهدتنا وطاعتنا، أفرأيتم الماء الذي تشربون، وهو ماء الحياة الذي تحيا به القلوب، تشربونه بوسائط المشايخ، يزقّه الشيخُ لروح المريد، كما يزق الطيرُ أفراخه، وبذلك تحيا روحه، فتغيب عن عوالم حسها، أأنتم أنزلتموه من سحاب الهداية والعناية، أم نحن المنزِلون‏؟‏ لو نشاء جعلناه أُجاجاً فَتَمجه الروحُ بعد شربها، أو تمتنع من شربه، فالأول للداخلين إذا لم تسعفهم رياح المقادير، فتنكسر سفينة سيرهم بعد الركوب، والثاني للطالبين المحرومين من أرزاق المعرفة‏.‏ فلولا تشكرون هذه النعم، حيث وفقكم لشرب الخمر، ودمتم حتى سكرتم وصحوتم، وحييت بها أرواحكم وأشباحكم‏.‏ أفرأيتم النار نار الشهوة التي تُورون؛ تقدحونها في نفوسكم، أأنتم أنشأتم شجرتها، وهي النفس الطبيعية، أم نحن المنشئون‏؟‏ نحن جعلناها تذكرة، أي‏:‏ إيقاظاً توقظ صاحبها ليتلجئ إلى مولاه، وفي الحِكَم‏:‏ «وحرَّك عليك النفس ليُديم إقبالك عليه»‏:‏ وجعلناها متاعاً للسائرين؛ إذ بجهادها يتحقق سيرهم، وبتصفيتها يتحقق كمالهم، وبفنائها يتحقق وصولهم، وكان شيخ شيخنا حين يشتكي له أحد له بنفسه، يقول‏:‏ أما أنا فجزاها علي خيراً، ما ربحت إلاّ منها‏.‏

وقال القشيري‏:‏ ‏{‏أفرأيتم النار‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الخ، يشير إلى نار المحبة المشتعلة الموقدة، بمقدح الطلب في حراقة قلب المحب الصادق في سلوكه وشجرتها هي العناية الإلهية، يدل على هذا قول العارف أبي الحسن المنصور- قدّس الله سره- حين سُئل عن حقيقة المحبة، فقال‏:‏ هي العناية الإلهية السرميدة، لولاها ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان، فنحن جلعناها تذكرة لأرباب النفوس البشرية، ليهدتوا بها إلى سلوك طريق الحق، ومتاعاً للمُوقين، أي غذاء أرواح المحبين، الطاوين أياماً وليالي من الطعام والشراب، كا رُوي عن سهل التستري‏:‏ أنه كان يطوي ثلاثين يوماً، وعن أبي عقيل المغربي‏:‏ أنه ما أكل ستين سنة وهو مجاور بمكة، وعن كثيرين من السالكين المرتاضين‏.‏ ه‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فسبِّح باسم ربك العظيم‏}‏ قال الورتجبي‏:‏ أَمَرَه أن ينزهه لا بنفسه بل بربه، ثم قال‏:‏ والاسم والمسمى واحد، أي‏:‏ قدسني بي فإني أعظم من أن تُقدسني بنفسك، أو بشيء دوني، ألا ترى إشارة قوله‏:‏ ‏{‏العظيم‏}‏ أي‏:‏ عظم جلاله أن يبلغ إلى أن تمدحه الخليقة، وأن تصِفة البرية‏.‏ ه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏75- 82‏]‏

‏{‏فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ ‏(‏75‏)‏ وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ ‏(‏76‏)‏ إِنَّهُ لَقُرْآَنٌ كَرِيمٌ ‏(‏77‏)‏ فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ ‏(‏78‏)‏ لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ ‏(‏79‏)‏ تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ ‏(‏80‏)‏ أَفَبِهَذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ ‏(‏81‏)‏ وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ ‏(‏82‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ «فلا»‏:‏ صلة، كقوله‏:‏ ‏{‏فَلاَ وَرَبِّكَ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 65‏]‏‏.‏ ومَن قرأ باللام فهي لام الابتداء، دخلت على مبتدأ محذوف، أي‏:‏ فلأنا أُقسم، ولا يصح أن تكون للقسم؛ لأنها لا بد أن تقرن بنون التوكيد‏.‏

يقول الحق جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏فلا أُقِسِمُ بمواقعِ النجومِ‏}‏ بمساقطها ومغاربها‏.‏ وقرأ الأخَوان «بموقع» على الإفراد، وتخصيصها بالقَسَم لِمَا في غروبها من زوال أثرها، والدلالة على وجود مؤثر دائم لا يتغير، أو‏:‏ لأنّ ذلك وقت قيام المجتهدين والمبتهلين إليه تعالى، وأوان نزول الرحمة والرضوان عليها، واستعظم ذلك بقوله‏:‏ ‏{‏وإنه لقَسَم لو تعلمون عظيمٌ‏}‏ وهو اعتراض في اعتراض، لأنه اعتراض بين القسم والمقسَم عليه بقوله‏:‏ ‏{‏إِنه لقرآن كريمٌ‏}‏ أي‏:‏ حسن مرضيّ، أو نفّاع جمّ المنافع؛ لاشتماله على أصول العلوم المهمة في صلاح المعاش والمعاد، أو‏:‏ كريم على الله تعالى، واعترض بين الموصوف وصفته ب ‏{‏لو تعلمون‏}‏ وجواب «لو» متروك، أريد به نفي علمهم، أو‏:‏ محذوف، ثقةً، والتقدير‏:‏ وإنه لقسم لو تعلمون ذلك، لكن لا تعلمون كُنه ذلك، أو‏:‏ لو تعلمون ذلك لعظمتموه، أو‏:‏ لعملتم بموجبه، ‏{‏في كتابٍ مكنون‏}‏ مَصون من غير المقربين من الملائكة، لا يطلع عليه مَن سواهم، وهو اللوح المحفوظ‏.‏

‏{‏لا يَمسُّه إِلاَّ المُطَهَّرون‏}‏ أي‏:‏ الملائكة المنزّهون عن الكدرات الجسمانية، وأوضار الذنوب‏.‏ هذا إن جعلته صفة لكتاب مكنون، وهو اللوح، وإن جعلته صفة للقرآن؛ فالمعنى‏:‏ لا ينبغي أن يمسّه إلاَّ مَن هو على الطهارة مِن الناس، والمراد‏:‏ المكتوب منه‏.‏ قال ابن جزي‏:‏ فإن قلنا إنَّ الكتاب المكنون هو الصحف التي بأيدي الملائكة، فالمطهَّرون يُراد به الملائكة؛ لأنهم مُطهَّرون من الذنوب والعيوب، وإن قلنا أنَّ الكتاب المكنون هو الصحف التي بأيدي الناس؛ فيحتمل أن يريد بالمطهرين‏:‏ المسلمين؛ لأنهم مُطَهرون من الكفر، أو يريد‏:‏ المطهرين من الحدث الأكبر، وهو الجنابة والحيض، فالطهارة على هذا‏:‏ الاغتسال‏.‏ أو‏:‏ المطهرين من الحدث الأصغر، فالطهارة على هذا‏:‏ الوضوء، ويحتمل أن يكون قوله‏:‏ ‏{‏لا يمسُّه‏}‏ خبراً أو نهياً، على أنه قد أنكر بعضهم أن يكون نهياً، وقال‏:‏ لو كان نهياً لكان بفتح السين‏.‏ والتحقيق‏:‏ أن النهي يصح مع ضم السين؛ لأن الفعل المضاعف إذا كان مجزوماً واتصل به ضمير المفرد المذكر ضُم عند التقاء الساكنين، اتباعاً لحركة الضمير، وإذا جعلته خبر؛ فيحتمل أن يُراد به مجرد الإخبار، أو‏:‏ يكون خبراً بمعنى النهي، وإذا كان لمجرد الإخبار، فالمعنى‏:‏ لا ينبغي أن يمسه إلاَّ المطهرون، أي‏:‏ هذا حقه، وإن وقع خلاف ذلك‏.‏

واختلف الفقهاء فيمن يجوز له مَسّ المصحف على حسب الاحتمالات في الآية، فأجمعوا على أنه لا يمسه كافر، واختلفوا فيما سواه على أقوال؛ فقال بعضهم‏:‏ لا يجوز أن يمسه الجُنب ولا الحائض ولا المحدِث الحدثَ الأصغر، وهذا قول مالك وأصحابه، ومَنعوا أيضاً أن يحمله بعلاقة أو وسادة، وحجتهم‏:‏ الآية، على أن يُراد بالمطهرين الطهارة من الحدث الأصغر والأكبر، وقد احتج مالك في الموطأ بالآية، ومن حجتهم أيضاً‏:‏ كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عَمرو بن حزم ألاَّ يمسَّ القرآن إلا طاهرٌ‏.‏

القول الثاني‏:‏ أنه يجوز مسه للجنب والحائض والمحدِث حدثاً أصغر، وهو مذهب أحمد بن حنبل والظاهرية، وحملوا «المطهرين» على أنهم المسلمون أو الملائكة‏.‏ والقول الثالث‏:‏ أنه يجوز مسه بالحدث الأصغر دون الأكبر، وحمل صاحب هذا القول «المطهرين» على أن يُراد من الحدث‏:‏ الأكبر، ورخَّص مالك في مسِّه على غير وضوء لمُعلِّم الصبيان؛ لأجل المشقة‏.‏

واختلفوا في قراءة الجنب للقرآن، فمنعه الشافعي وأبو حنيفة مطلقاً، وأجازه الظاهرية مطلقاً، وأجاز مالك قراءة الآيات اليسيرة، أي‏:‏ لتعوُّذ ونحوه‏.‏ واختلفوا في قراءة الحائض والنفساء للقرآن عن ظاهر قلب، فعن مالك روايتان، وفرّق بعضهم بين الكثير واليسير‏.‏ ه‏.‏ قلت‏:‏ المشهور في الحائض والنفساء جواز القراءة مطلقاً‏.‏ وقال الكواشي عن ابن عطاء‏:‏ لا يفهم إشارات القراءة إلاَّ مَن طَهَّر سره من الأكوان‏.‏ ه‏.‏ وفي آخر البخاري؛ «لا يمسه»‏:‏ لا يجد طعمه ونَفْعَه إلاَّ مَن آمن بالقرآن، ولا يحمله بحقه إلاَّ المؤمنُ لقوله‏:‏ ‏{‏مَثَلُ الذين حُمِّلُواْ التوراة‏}‏ ‏[‏الجمعة‏:‏ 5‏]‏‏.‏ ه‏.‏

‏{‏تنزيلٌ من رب العالمين‏}‏‏:‏ صفة رابعة للقرآن، أي‏:‏ نزل من رب العالمين، وُصف بالمصدر؛ لأنه نزل منجّماً من بين سائر الكتب، فكأنه في نفسه تنزيل، ‏{‏أفبهذا الحديثِ‏}‏ أي‏:‏ القرآن ‏{‏أنتم مُّدْهِنون‏}‏ متهاونون به، كمَن يُدهن في بعض الأمر، أي‏:‏ يلين جانبه، فلا يتصلّب فيه تهاوناً به‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ قال ابن عباس‏:‏ المداهنة هي المهاودة فيما لا يحل، والمداراة‏:‏ المهادوة فيما يحل‏.‏ ه‏.‏

‏{‏وتجعلون رزقَكم أنكم تُكذِّبون‏}‏ أي‏:‏ وتجعلون شكر رزقكم التكذيب، أي‏:‏ وضعتم التكذيب موضع الشكر‏.‏ وفي قراءة عليّ رضي الله عنه، وهي مروية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏{‏وتجعلون شكركم أنكم تكذِّبون‏}‏ أي‏:‏ وتجعلون شكركم لنعمة القرآن التكذيب‏.‏ وقيل‏:‏ نزلت في الأنواء ونسبة الأمطار إليها، أي‏:‏ وتجعلون شكر ما رزقكم الله من الغيث أنكم تكذّبون كونَه من الله، حيث تنسبونه إلى النجوم، وتقولون‏:‏ مُطرنا بنوء كذا، والمنهي إنما هو اعتقاد التأثير للنجوم، لا من بابا العلامة وقيل‏:‏ مطلقاً، سدّاً للذريعة، وهو مقتضى كلام ابن رشد، وعزاه لسحنون‏.‏ والمسألة خلافية، وقد قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ «إذا ذُكرت النجوم فأمْسِكوا»، ومنهم مَن فصّل في المسألة، فقال‏:‏ يجوز إضافة الأفعال السيئة إليها لقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «تعوّذوا بالله من شر هذا، فإنه الغاسق إذا وقب»

وأشار إلى القمر‏.‏ وأما الحسنة فالشكر يقتضي إضافتها إلى الله، وكذا الأدب‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

الإشارة‏:‏ مواقع النجوم هي أسرار العارفين؛ لأنه يغرق في بحارها كل ما سوى الله، وتغيب فيها نجوم العلم العقلي والنقلي، وأقمار التوحيد البرهاني؛ لأنه إذا أشرقت في قلوبهم شمس العرفان، لم يبقَ لنور النجوم والقمر أثر، وقد قلت في قصيدتي العينية‏:‏

تبدّت لنا شمسُ النهارِ وأشرقتْ *** فلم يَبق ضوءُ النجمِ والشمسُ طالعُ

قال شيخ شيوخنا، سيدي عبد الرحمن الفاسي‏:‏ كنتُ أعرف أربعة عشر علماً، فلما تعلمتُ علم الحقيقة شرطت ذلك كله‏.‏ ه‏.‏ يعني‏:‏ وقع الاستغناء عنها، فالكنز الذي ظفر به من العلم بالله، على نعت العيان، فلم يبقَ للروح التفات إلى شيء قط‏.‏ «ماذا فقد من وجدك»‏؟‏ وليس المراد أنها ذهبت معرفتها عنه، بل لو رجع إليها لوجدها تشحرت واتسعت أمدادها، ولكن ظفر بعلم يُعد الاشتغال بغيره بطالة، كما قال الغزالي لابن العربي المعافري‏:‏ كنتَ الصاحِبَ في زمن البطالة، يعني‏:‏ قبل ملاقاته بالشيخ‏.‏ وإنما كان القسم به عظيماً؛ لأنه ليس عند الله أعظم من قلوب الواصلين وأسرار العارفين، لأنها وسعت الرب تعالى علماً وتجلياً، «لم يسعني أرضي ولا سمائي، ووسعني قلب عبدي المؤمن»‏.‏ فالقَسم عظيم، والمُقسَم به أعظم، والمُقسَم عليه أعظم، وهو القرآن الكريم، ‏{‏لا يسمّه إلاّ المطهرون‏}‏ قال الجنيد‏:‏ لا يمسّه إلاّ العارفون بالله، المطهرون سرهم عما سوى الله‏.‏ ه‏.‏ أي‏:‏ لا يمس أبكار حقائقه ودقائق إشارته إلاّ القلوب المطهَرة من الأكدار والأغيار، وهي قلوب العارفين‏:‏ ‏{‏تنزيل من رب العالمين‏}‏ على سيد المرسلين، ثم غرفت أسرارَه قلوبُ خلفائه العارفين‏.‏ أفبهذا الحديث أنتم مدهنون‏.‏ قال القشيري‏:‏ أي‏:‏ أنتم تتهاونون في قبول مثل هذا الكلام الحق، وتعجبون من مثل هذه الحقيقيات والتدقيقات‏.‏ ه‏.‏ والعتاب لمَن يتهاون بعلم الإشارة ويُنكرها‏.‏ ويتنكّب مطالعتها‏.‏ وتجعلون شكر رزقكم إياها- حيث استخرجها بواسطة قلوب العارفين- التكذيب بها والإنكار على أربابها‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏83- 96‏]‏

‏{‏فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ ‏(‏83‏)‏ وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ ‏(‏84‏)‏ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لَا تُبْصِرُونَ ‏(‏85‏)‏ فَلَوْلَا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ ‏(‏86‏)‏ تَرْجِعُونَهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ‏(‏87‏)‏ فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ ‏(‏88‏)‏ فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ ‏(‏89‏)‏ وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ ‏(‏90‏)‏ فَسَلَامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ ‏(‏91‏)‏ وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ ‏(‏92‏)‏ فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ ‏(‏93‏)‏ وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ ‏(‏94‏)‏ إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ ‏(‏95‏)‏ فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ ‏(‏96‏)‏‏}‏

يقول الحق جلّ جلاله لمَّا وبَّخهم على تكذيبهم بالقرآن الناطق بقوله‏:‏ ‏{‏نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ‏}‏ ‏[‏الواقعة‏:‏ 75‏]‏، ثم أوقفهم على أنهم تحت قهر ملكوته، من حيث طعامهم وشرابهم وسائر أسباب معاشهم، عجزهم بقهرية الموت، فقال‏:‏ ‏{‏فلولا‏}‏ أي‏:‏ هلاَّ ‏{‏إِذا بلغتْ‏}‏ الروح عند الموت ‏{‏الحلقومَ‏}‏ وهو ممرّ الطعام والشراب، وتداعت للخروج ‏{‏وأنتم حينئذٍ‏}‏ أيها الحاضرون حول صاحبها ‏{‏تنظرون‏}‏ إلى ما هو فيه من الغمرات، ‏{‏ونحن أقربُ إِليه‏}‏ علماً وقدرة وإحاطة ‏{‏منكم‏}‏ حيث لا تعرفون من حاله إلاَّ ما تُشاهدون من أثر الشدة، من غير أن تقفوا على كنهها وكيفيتها وأسبابها، ولا أن تقدروا على دفع أدنى شيء منها، ونحن المتولون لتفاصيل أحواله، ‏{‏ولكن لا تُبصرون‏}‏ لا تدركون ذلك لجهلكم بشؤوننا، ‏{‏فلولا إِن كنتم غير مَدِينينَ‏}‏ غير مربوبين مقهورين، من‏:‏ دان السطلان رعيته‏:‏ إذا ساسهم واستعبدهم، والمحضَض عليه قوله‏:‏ ‏{‏ترجعونها‏}‏ تردون الروح إلى الجسد بعد بلوغ الحلقوم ‏{‏إِن كنتم صادقين‏}‏ أنكم غير مربوبين مقهورين‏.‏

وترتيب الآية‏:‏ فلولا إذا بلغت الروحُ الحلقومَ، وأنتم تنظرون إليه، يُعالج سكرات الموت، ترجعونها إلى الجسد إن كنتم غير مربوبين، ف «لولا» الثانية مكررة للأولى؛ للتأكيد، والمعنى‏:‏ إنكم في عموم جحودكم إن أنزلت عليكم كتاباً قلتم‏:‏ سحرٌ وافتراءٌ، وإن أرسلتُ إليكم رسولاً صادقاً قلتم‏:‏ ساحرٌ كذابٌ، وإن رزقتكم مطراً يُحييكم قلتم‏:‏ صدق نوء كذا، على مذهب التعطيل، فما لكم لا ترجعون الروح إلى البدن إذا بلغ الحلقوم، إن كنتم صادقين في تعطيلكم وكفركم بالمُحيي المييت، المبدئ المعيد، وأنكم غير مربوبين مقهورين‏؟‏‏!‏‏.‏

ثم ذكر أحوال الأرواح عبد الموت في البرزخ، فقال‏:‏ ‏{‏فأمّا إِن كان‏}‏ المتوفى ‏{‏من المقرَّبين‏}‏ من السابقين، من الأزواج الثلاثة المذكورة أول السورة، عبّر عنهم هنا بأجلّ أوصافهم، وهو شدة القرب، بعد أن عبّر عنهم أولاً بالسبق، فالسابقون هم المقربون، وهم العارفون بالله معرفة العيان، أهل الفناء في الذات، لقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «سبق المُفَرِّدون»، قيل‏:‏ ومَن المُفَرِّدون يا رسول الله‏؟‏ قال‏:‏ «المسْتَهترون بذكر الله» الحديث‏.‏ فالسابقون هم المولعون بذكر الله، حتى امتزج مع لحمهم ودمهم، فحصل لهم القرب من الحق‏.‏

‏{‏فَرَوْحٌ‏}‏ أي‏:‏ فلهم روح، أي‏:‏ راحة للروح لأرواحهم من هموم الدنيا وغمومها، ومن ضيق عالم الأشباح إلى خالص عالم الأرواح، مع أن هذا حاصل لهم قبل الموت، لكن يتسع ميدانه بعد الموت، أو‏:‏ رحمة تخصهم، أو‏:‏ نسيم يهب عليهم‏.‏ وفي القاموس‏:‏ الرَّوح- بالفتح‏:‏ الراحة والرحمة ونعيم الريح‏.‏ ه‏.‏ وقرئ بالضم، وهي مروية عنه صلى الله عليه وسلم، أي‏:‏ الحياة والبقاء، أو‏:‏ فله حياة طيبة دائمة لا موت فيها ‏{‏وريحانٌ‏}‏ أي‏:‏ رزق، بلغة حِمْير، والمراد‏:‏ رزق أرواحهم من العلوم والأسرار، أو‏:‏ أشباحهم، فإنّ أرواحهم تتطور على شكر صاحبها، فتأكل من ثمار الجنة، وتشرب من أنهارها‏.‏

كما في حديث الشهداء، والصديقون أعظم منهم، أو‏:‏ جنة، أو‏:‏ هو الريحان الذي يُشمّ‏.‏ قال أبو العالية‏:‏ «لا يُفارق أحدٌ من المقربين الدنيا حتى يؤتى ببعض من ريحان الجنة فيشمه، فتفيض روحه»، ‏{‏وجنةُ نعيم‏}‏ تتنعّم فيها روحه في عالم البرزخ، ثم جسمه وروحه بعد البعث، وهذا يقتضي أنّ الأرواح تدخل الجنة قبل البعث، وهو خاص بالشهداء والصدِّيقين‏.‏

‏{‏وأمّا إِن كان مِن أصحاب اليمين فسلامٌ لك من أصحاب اليمين‏}‏ أي‏:‏ فسلام لك يا صاحب اليمين من إخوانك أصحاب اليمين، أي‏:‏ يسلّمون عليك؛ فإنّ الروح إذا سُئلت في القبر عُرج بها إلى أرواح أهلها، فيتلقونه ويُسلّمون عليه، ويهنُّونه بالخروج من سجن الدنيا، أو‏:‏ سلامة لك يا محمد من أصحاب اليمين، فلا ترى فيهم إلاَّ السلامة‏.‏

‏{‏وأمّا إِن كان من المكذّبين الضالين‏}‏ هم الصنف الثالث من الأزواج الثلالثة، وهم الذين قبل لهم‏:‏ ‏{‏ثم إنكم إيها الضالون المكذِّبون‏}‏‏.‏‏.‏‏.‏ الخ، ‏{‏فَنُزُلٌ من حَميم‏}‏ أي‏:‏ فله نُزل من حميم يشربه، ‏{‏وتَصْلِيهُ جحيمِ‏}‏ إدخال في النار، ومقاساة ألوانِ عذابها‏.‏ وهذا يدل على أنّ الكافر بمجرد موته يدخل النار‏.‏ وقيل‏:‏ معنى ذلك‏:‏ ما يجده في القبر من سموم النار ودخانها‏.‏ ويحتمل‏:‏ أن الآية لا تختص بعالم البرزخ، بل تعم البرزخ وما بعده‏.‏

وقد تكلم الناسُ عن الأرواح في عالم البرزخ، وحاصل ما ظهر لنا من الأحاديث والأخبار‏:‏ أنّ أرواح الصدّيقين، وهم المقربون، تتشكل على صورة أجسامهم، وتذهب حيث شاءت في الجنان وغيرها‏.‏ وأرواح الشهداء تدخل في حواصل طيور خُضر، تسرح في الجنة حيث شاءت، لمّا كانت أرواحهم في الدنيا مسجونة في هيكل ذاتهم، سُجنت في حواصل الطيور، بخلاف العارفين لّمَا سرحت أفكارهم في الملكوت والجبروت؛ أُطلقت أرواحهم بعد الموت، وأرواح الصالحين الأبرار وعامة المؤمنين، ممن لم ينفذ فيه الوعيد؛ متفرقة في البرزخ، فمنهم في ظل شجرة المنتهَى، ومنهم في السموات، على قدر سعيهم في الدنيا‏.‏ وكل صنف يُجمع مع صنفه جماعةً، فالعلماء مع صنفهم، والقراء كذلك، والصالحون كذلك، والأولياء كذلك، والمنهمكون في الدنيا إذا سلموا من العذاب تكون أرواحهم كالنائم المستغرق، لا يشعر بمرور الأيام، حتى يستيقظ بنفخة البعث، وأما مَن نفذ فيهم الوعيد، فهم يُعذبون بأنواع من العذاب، وتذكَّر حديث البخاري في الرؤيا التي رآها صلى الله عليه وسلم في شأن الزناة وأكل الربا، وغيرهم‏.‏ وفي ابن حجر‏:‏ أن أرواح المؤمنين في عليين، وأرواح الكافر في سجين، ولكل روح بجسدها اتصال معنوي، لا يُشبه الاتصال في الحيلة الدنيا، بل أشبه شيء به حال النائم، وإن كان هو أشد من حال النائم اتصالاً قال‏:‏ وبهذا يُجمع بين ما ورد أن مقرها في عليين أو سجين، وبين ما نقل ابن عبد البر عن الجمهور‏:‏ أنها عند أَفْنية قبورها‏.‏

قال‏:‏ ومع ذلك فهي مأذون لها في التصرُّف، وتأوي إلى محلها من عليين أو سجين، وإذا نقل الميت من قبر إلى قبر، فالاتصال المذكور متصل، وكذا إذا تفرقت الأجزاء‏.‏ ه‏.‏

وفي الأصل الرابع والخمسين من نوادر الأصول‏:‏ إذا قَدِمَ المؤمنُ على ربه لقاه رَوحاً وريحاناً وبشرى على ألسنة الرسل، وهو قوله‏:‏ ‏{‏إِنَّ الذين قَالُواْ رَبُّنَا الله ثُمَّ استقاموا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الملائكة‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 30‏]‏، ثم يأمر له في قبره بكسوة من فِراش ودِثار ورياحين، وهو قوله‏:‏ ‏{‏وَمَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلأَنفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ‏}‏ ‏{‏الروم‏:‏ 44‏]‏، ويُنور له في مضجعه، ويُؤنسه بملائكته الكرام، إلى أن يلقاه عرصة القيامة، فيبعثه إلى الموطن الذي هيأ له نزلاً‏.‏ ه‏.‏ وقال في الأصل السبعين‏:‏ إنّ الشهداء يُعجّل لهم تعالى اللقاء، ويحييهم قبل نفخة الصور، ويكلمهم كِفاحاً، كما لأهل الجنة، وليس لمَن دونهم من الأموات هذه الدرجة إلاّ للصدّيقين، فهم أجدر بذلك؛ لبذلهم نفوسهم لله تعالى مدة أعمارهم، والشهداء بذلوها في طاعة الله ساعة، فظهر أن للشهيد حياة خاصة على مَن دونه، وأحرى منه الصدّيق‏.‏ ه‏.‏

وبالجملة‏:‏ فالأرواح منها في البرزخ تجول وتُبصر أحوال أهل الدنيا، ومنها تحت العرش، ومنها طيّارة في الجنان وإلى حيث شاءت، على أقدارهم من السعي إلى الله أيام الحياة، ومنها ما تسرح وتتردد إلى جثتها تزورها، ومنها ما يلقى أرواح المقبوضين‏.‏ وعن سَلمان‏:‏ إنّ الأرواح المؤمنين- أي‏:‏ الكُمل- تذهب في برازخ من الأرض حيث شاءت، بين السماء والأرض، حتى يردها الله إلى جسدها، فإذا ترددت هذه الأرواح علمت بأحوال الأحياء، وإذا ورد عليهم من الأحياء ميت، التفُّوا وتساءلوا عن الأخبار‏.‏ ه‏.‏ قلت‏:‏ وهذه أرواح العارفين دون غيرهم‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏ وفي بعض الأثر‏:‏ إذا مات العارف قبل لروحه‏:‏ جُل حيث شئتِ‏.‏

‏{‏إِنَّ هذا‏}‏ أي‏:‏ الذي ذكر في السورة الكريمة ‏{‏لهو حقُّ اليقين‏}‏ أي‏:‏ الحق الثابت من اليقين، أو‏:‏ حق الخبر اليقين، ‏{‏فسبِّح باسم ربك العظيم‏}‏ الفاء لترتيب التسبيح، أو الأمر به على ما قبلها، فإنّ حقيّة ما فصل في تضاعيف السورة الكريمة مما يوجب تنزيهه تعالى عما لا يليق بشأنه الجليل؛ من الأمور التي من جملتها الإشراك والتكذيب بآياته الناطقة بالحق‏.‏

الإشارة‏:‏ فأمّا إن كان من المقربين؛ فرَوْح الوصال، وريحان الجمال، ومِنّة الكمال، أو‏:‏ فرَوْح الفضاء، وريحان العطاء، وجنة البقاء، أو‏:‏ فروح الفناء، وريحان البقاء، وجنة الترقي أبداً سرمداً، أو‏:‏ فرَوْح الأنس لقلبه، وريحان القدس لروحه، وجنة الفردوس لنفسه، ‏{‏وأمّا إِن كان مِن أصحاب اليمين فسلامٌ لك‏}‏ أي‏:‏ فسلام عليك يا محمد ‏{‏من أًصحاب اليمين‏}‏ فهم يسلمون عليك، ويشتاقون إلى لقائك، ويرتاحون للقدوم عليك وصحبتك‏.‏

والحاصل‏:‏ أنَّ المقرَّب راحته ونعيمه في وصاله بربه، وصاحب اليمين اشتياقه لرسوله، وراحته ونعيمه في حصبته وجواره، فالمُقرَّب فانٍ في ذات الحق، وصاحب اليمين فانٍ في رسوله صلى الله عليه وسلم سيد الخلق، فأهل الفناء في الذات هم المقربون، وأهل الفناء في النبي صلى الله عليه وسلم هم أصحاب اليمين، فحاصل الآية‏:‏ ‏{‏فأمّا إِن كان مِن المقربين‏}‏ فهو لي، وأُجازيه برَوْح وريحان وجنة نعيم، وأما إن كان من أصحاب اليمين فمُسلم لك، وهو من أصحاب اليمين، هذا حاصل ما حرره شيخ شيوخنا الفاسي في حاشيته‏.‏

وفي الإحياء ما حاصله‏:‏ أنَّ المقرَّب له الوصال إلى سعادة الملك، وصاحب اليمين له النجاة، وهو سالك، والمقرَّب واصل، والمعرِض عن الله له الجحيم‏.‏ والخبر عن ذلك كله حق يقين عند العارف بالله؛ لأنه أدرك ذلك كله مشاهدةً‏.‏ وفي القوت بعد كلام‏:‏ وأيضاً للمقربين من كل هولٍ رَوح به لشهادتهم القريب، وفي كل كربٍ ريحان لقرب الحبيب، كما لأهل اليمين من كل ذلك سلامة‏.‏ ه‏.‏

قال النسفي‏:‏ رُوي أنَّ عثمان بن عفان رضي الله عنه دخل على ابن مسعود رضي الله عنه في مرض موته، فقال‏:‏ ما تشتكي‏؟‏ فقال‏:‏ ذنوبي، فقال‏:‏ ما تشتهي‏؟‏ فقال‏:‏ رحمة ربي- وفي رواية‏:‏ ما يقضي ربي- فقال‏:‏ أفلا تدعوا الطبيب‏؟‏ فقال‏:‏ الطبيب أمرضني، فقال‏:‏ ألا نأمر لك بعطاء‏؟‏ فقال‏:‏ لا حاجة لي فيه، قال‏:‏ ندفعه إلى بناتك، قال‏:‏ لا حاجة لهن فيه، قد أمرتهنّ بأن يقرأن سورة الواقعة، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ «مَن قرأ سورة الواقعة كل ليلة لم تُصبه فاقة أبداً» وليس في هذه السور الثلاث ذكر لفظ «الله» ‏(‏اقتربت، والرحمن، والواقعة‏)‏‏.‏ ه‏.‏ وبالله التوفيق، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وصلّى الله على سيدنا محمد وصحبه وسلّم‏.‏

سورة الحديد

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 6‏]‏

‏{‏سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ‏(‏1‏)‏ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ‏(‏2‏)‏ هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآَخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ‏(‏3‏)‏ هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ‏(‏4‏)‏ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ ‏(‏5‏)‏ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَهُوَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ‏(‏6‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ وقعت مادة التسبيح في القرآن بلفظ الماضي والمضارع والأمر والمصدر؛ استيفاء لهذه المادة، فقال هنا‏:‏ ‏{‏سَبَّحَ‏}‏ وفي الجمعة‏:‏ ‏{‏يُسَبِّحُ‏}‏ ‏[‏الجمعة‏:‏ 1‏]‏ و‏{‏سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى‏}‏ ‏[‏الأعلى‏:‏ 1‏]‏ و‏{‏سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 1‏]‏‏.‏ وهذا الفعل قد عُدّي باللام تارة، وبنفسه أخرى في قوله‏:‏ ‏{‏وَسَبِّحُوهُ‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 42‏]‏، وأصله‏:‏ التعدي بنفسه؛ لأنّ معنى سبَّحته‏:‏ بعّدته من السوء، من‏:‏ سَبَح‏:‏ إذا ذهب وبَعُد، فاللام إما أن تكون مثل اللام في‏:‏ نصحته ونصحت له، وإما أن يراد ب «سبَّح لله»‏:‏ اكتسب التسبيح لأجل الله ولوجهه خالصاً‏.‏ قاله النسفي‏.‏

يقول الحق جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏سَبَّح لله‏}‏ أي‏:‏ نَزَّه اللّهَ عما لا يليق بجلاله، اعتقاداً، أو قولاً وعملاً، مَن استقر ‏{‏في السماوات والأرض‏}‏ مِن الملائكة والجن والإنس والجمادات، بلسان الحال والمقال، فإنَّ كل فرد من أفراد الموجودات يدلّ بإمكانه وحدوثه على الصانع القديم، الواجب الوجود، المتصف بالكمال، المنزَّه عن النقائص، وهو المراد بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِن مِّن شَىْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 44‏]‏ قيل‏:‏ إنما استغنى عن إعادة الموصل في خصوص هذه السورة لتكرر ذكر الأرض هنا في أربعة مواضع‏.‏ ه‏.‏ ‏{‏وهو العزيزُ‏}‏ المنتقِم ممن لم يُسبِّح له عناداً، ‏{‏الحكيمُ‏}‏ في مجازاة مَن سبَّح له انقياداً‏.‏

‏{‏وله مُلك السماواتِ والأرض‏}‏ أي‏:‏ التصرُّف الكلي فيهما وفيما فيهما من الموجودات، مِن نعت الإيجاد والإعدام وسائر التصرفات‏.‏ قال الورتجبي‏:‏ ذكر الله سبحانه ملكه على قدر أفهام الخليقة، وإلاّ فأين السموات والأرض من ملكه، والسموات والأرضون في ميادين مملكته أقل من خردلة‏!‏ لمّا علم عجز خلقه عن إدراك ما فوق رؤيتهم، ذكر أنَّ مُلك السموات والأرض مِلكُ قدرته الواسعة، التي إذا أراد الله إيجاد شيء يقول كن فيكون بقدرته، وليس لقدرته نهاية، ولا لإرادته منتهى‏.‏ ه‏.‏ ‏{‏يُحيي ويميت‏}‏ استئناف مُبيِّن لبعض أحكام المُلك، أي‏:‏ هو يُحيي الموتى ويُميت الأحياء، ‏{‏وهو على كل شيءٍ‏}‏ من الأشياء، التي من جملتها الإحياء والإماتة ‏{‏قدير‏}‏ لا يعجزه شيء‏.‏

‏{‏وهو الأولُ‏}‏ القديم قبل كل شيء، ‏{‏والآخرُ‏}‏ الذي يَبقى بعد فناء كل شيء، ‏{‏والظاهرُ‏}‏ الذي ظهر بكل شيء، ‏{‏والباطنُ‏}‏ الذي اختفى بعد ظهوره في كل شيء، وقد جاء في الحديث‏:‏ «اللهم أنت الأول، فليس قبلك شيء، وأنت الآخر، فليس بعدك شيء، وأنت الظاهر فليس فوقك شيء، وأنت الباطن، فليس دونك شيء» قال الطيبي‏:‏ فالمعنيّ بالظاهر على التفسير النبوي‏:‏ الغالب الذي يَغلب ولا يُغلب، فيتصرف في المكونات على سبيل الغلبة والاستيلاء؛ إذ ليس فوقه أحدٌ يمنعه، وبالباطن ألاّ ملجأ ولا منجا دونه، يُنجي ملتجئاً له‏.‏ ه‏.‏ وسيأتي في الإشارة تحقيقه إن شاء الله‏.‏ ‏{‏وهو بكل شيءٍ عليم‏}‏ لا يعزب عن علمه شيء من الظاهر والخفيِّ‏.‏

‏{‏هو الذي خلق السماوات والأرضَ في ستة أيام‏}‏ من أيام الدنيا، ولو أراد أن يخلقها في طرفة عين لفعل، ولكن جعل الست أصلاً ليكون عليها المدار، وتعليماً للتأني، ‏{‏ثم استوى‏}‏ أي‏:‏ استولى ‏{‏على العرش‏}‏ حتى صار العرش وما احتوى عليه غيباً في عظمة أسرار ذاته، ‏{‏يعلم ما يَلِجُ في الأرض‏}‏ ما يدخل فيها، من البذر، والقطر، والكنوز، والأمطار، ‏{‏وما يعرجُ فيها‏}‏ من الملائكة والأموات والأعمال، ‏{‏وهو معكم أينما كنتم‏}‏ بالعلم والقدرة والإحاطة الذاتية، وما ادعاه ابنُ عطية من الإجماع أنه بالعلم، فإن كان مراده من أهل الظاهر فمسلّم، وأمّا أهل الباطن فمجمِعون على خلافه، انظر الإشارة‏.‏ ‏{‏والله بما تعملون بصير‏}‏ فيُجازي كلاًّ بعمله‏.‏

‏{‏له مُلك السماوات والأرضِ‏}‏ تكرير للتأكيد، وتمهيد لقوله‏:‏ ‏{‏وإِلى الله تُرجع الأمورُ‏}‏ أي‏:‏ إليه وحده لا إلى غيره استقلالاً واشتراكاً ترجع جميع الأمور، ‏{‏يُولج الليلَ في النهار‏}‏ يُدخل الليل في النهار، بأن ينقص من الليل ويزيد في النهار، ‏{‏ويُولج النهارَ في الليل‏}‏ بأن ينقص من النهار ويزيد الليل، ‏{‏وهو عليم بذات الصدور‏}‏ أي‏:‏ بمكنونها اللازمة لها من الهواجس والخواطر، بيان لإحاطة علمه تعالى بما يضمرونه من نياتهم وخواطرهم، بعد بيان إحاطته بأعمالهم التي يظهرونها على جوارحهم، أو بحقائق الصدور من صلاحها وفسادها، كَنّى بها عن القلوب‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

الإشارة‏:‏ التسبيح مأخوذ من السبْح، وهو العوم، فأفكار العارفين تعوم في قلزوم بحر الذات وتيار الصفات، وترجع إلى ساحل البر لتقوم بوظائف العبودية والعبادات، وقد سبَح في بحر الذات وغرق فيه أهلُ السموات والأرض، شعروا أم لم يشعروا، بل كل الكائنات غريقة في بحر الذات، ممحوة بأحديتها‏.‏ قال القشيري‏:‏ تنزيهاً لله تعالى من حيث الاسم الجامع لجميع الأسماء والصفات الجلالية والجمالية ما في السموات الذات من الأسماء الذاتية، المتجلية في المظاهر الكلية، وما في أرض الصفات من الأسماء الصفاتية، المتجلية في المظاهر الجزئية‏.‏ اعلم أن فَلَك الذات سماء الصفات، وفلك الصفات أرض الذات، وكذلك فلك الصفات سماء الأسماء، وفلك الأسماء أرض الصفات، وهذه السموات والأرضون كلها مظاهر اسم الله الأعظم، وهو المسبَّح- بالفتح- في مقام التفصيل، والمسبِّح- بالكسر- في مقام الجمع، كما ذكرنا‏.‏ ه‏.‏

قلت‏:‏ ومعنى قوله‏:‏ «فلك الذات سماء الصفات»‏.‏‏.‏‏.‏ الخ، أنَّ أسرار الذات اللطيفة الأصلية سقف لأنوار الصفات، المتجلّي بها، وأنوار الصفات، أرض لتلك الأسرار، وكذلك أنوار الصفات سقف لأرض الأسماء، والأسماء أرض لسماء الصفات، وبقي عليه أن يقول‏:‏ وفلك الأسماء سماء للأثر، والأثر أرض لسماء الأسماء، فكل مقام سماء لما تحته، وأرض لما فوقه، فالأثار أرض لسماء الأسماء، والأسماء أرض للصفات، والصفات أرض للذات، دلّ بوجود آثاره على وجود أسمائه، وبوجود أسمائه على وجود صفاته، وبوجود صفاته على وجود ذاته، وهذا مقام الترقي، ومقام التدلي بالعكس، انظر الحِكَم، وهو العزيز أن يُدرك كنه ربوبيته، الحكيم في اختفائه بعد ظهوره‏.‏

له ملك سموات الأرواح وأرض الأشباح، أو‏:‏ ملك سموات أفلاك الذات والصفات والأسماء، وفلك أرضها، على ما تقدّم‏.‏ يُحيي قلوب أوليائه بمعرفته، ويُميت قلوب أعدائه بالجهل به، أو يُحيي القلوب بالعلم به، ويُميت النفوس بالفناء عنها، وهو على كل شيء قدير من الأحياء والإماتة وغيرهما‏.‏ هو الأول بلا بداية والآخر بل نهاية، وهو الظاهر، فلا ظاهر معه، وهو الباطن في حال ظهوره‏.‏ أو‏:‏ هو الظاهر بتجلياته، والباطن بما نشر عليها من رداء كبريائه، أو‏:‏ الظاهر بقدرته، والباطن بحكمته، أو‏:‏ الظاهر بالتعريف، والباطن باعتبار التكييف‏.‏ والحاصل‏:‏ أنه ظاهر في بطونه، باطن في ظهوره، ما ظهر به هو الذي بطن فيه، وما بطن فيه هو الذي ظهر به، اسمه الظاهر يقتضي بطون الأشياء واستهلاكها وتلاشيها؛ إذ لا ظاهر معه، واسمه الباطن يقتضي ظهور حسها، ليكون باطناً فيها‏.‏ وفي الحِكَم قال‏:‏ «أظهر كل شيء بأنه الباطن، وطوى وجود كل شيء بأنه الظاهر»‏.‏ ولا يفهم هذا إلاّ أهل الأذواق‏.‏

قال القشيري‏:‏ هو الأول في عين آخريته، والآخر في عين أوليته، والظاهر في عين باطنيته، والباطن في عين ظاهريته، من حيثية واحدة، واعتبار واحد، في آنٍ واحد؛ لأنها ذاته المطلقة عن هذه الاعتبارات المختلفة، والحيثيات المتنافرة؛ لإحاطته بالكل، واستغنائه عن الكل‏.‏ قيل لأبي سعيد الخراز‏:‏ بِمَ عرفت الله‏؟‏ قال‏:‏ بجمعه بين الأضداد، ثم تلا هذه الآية‏:‏ ‏{‏هو الأول والآخر‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الخ، ولا يتصور الجمع بين الأضداد إلاَّ مِن حيثية واحدة، واعتبار واحد، في آنٍ واحد‏.‏ ه‏.‏

‏{‏هو الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام‏}‏ قال القشيري‏:‏ يُشير إلى مراتب الصفات الستة، وهي‏:‏ الحياة، والعلم، والقدرة، والإرادة، والسمع، والبصر، أي‏:‏ هو الذي تجلّى للأشياء كلها بذاته الموصوفة بالصفاة بالصفات الستة‏.‏ انظر بقيته فيه‏.‏ وتقدم الكلام على الاستواء في سورة الأعراف والسجدة‏.‏ يعلم ما يلج في أرض البشرية من المساوئ، وما يخرج منها بالتخلية والمجاهدة، وما ينزل من سماء الغيوب على القلوب المطهرة، من العلوم والأسرار، وما يعرج فيها من حلاوة الشهود، وهو معكم أينما كنتم بذاته وصفاته، على ما يليق بجلال قدسه وكمال كبريائه؛ إذ الصفة لا تُفارق الموصوف فإذا كانت المعية بالعلم لَزِمَ أن تكون بالذات، فافهم، وسلِّم إن لم تذق‏.‏

حدثني شيخي، الفقيه المحرر «الجنوي»‏:‏ أنَّ علماء مصر اجتمعوا للمناظرة في صفة المعية، فانفصل مجلسهم على أنها بالذات، على ما يليق به‏.‏ وسمعتُه أيضاً يقول‏:‏ إنَّ الفقيه العلامة «سيدي أحمد بن مبارك» لقي الرجل الصالح سيدي «أحمد الصقلي»، فقال له‏:‏ كيف تعتقد‏:‏ ‏{‏وهو معكم أين ما كنتم‏}‏ ‏؟‏ فقال‏:‏ بالذات، فقال له‏:‏ أشهد أنك من العارفين‏.‏

ه‏.‏ قلت‏:‏ فبحر الذات متصل، لا يتصور فيه انفصال، ولا يخلو منه مكان ولا زمان، كان ولا زمان ولا مكان، وهو الآن على ما عليه كان‏.‏

وقال الورتجبي‏:‏ للعارفين في هذا مقامان‏:‏ مقام عين الجمع، ومقام إفراد القديم من الحدوث‏.‏ فمِن حيث الوحدة والقِدم تتصاغر الأكوان في عزة الرحمن، وسطوات عظمته، حتى لا يبقى أثرها‏.‏ ثم قال‏:‏ ومِن حيث الجمع باشر نورُ الصفة نورَ العقل، ونورُ الصفة قائم بالذات، فيتجلّى بنوره لفعله من ذاته وصفاته، ثم يتجلّى من الفعل، فترى جميعَ الوجوه مرآةَ وجوده، وهو ظاهر لكل شيء، من كل شيء للعموم بالفعل، وللخصوص بالاسم والنعت، ولخصوص الخصوص بالصفة، وللقائمين بمشاهدة ذاته بالذات، فهو تعالى منزّه عن البينونة والحلول والافتراق والاجتماع، وإنما هو ذوق العشق، ولا يعلم تأويله إلاّ العاشقون‏.‏ ه‏.‏ وحاصل كلامه‏:‏ أنك إن نظرت للوحدة لم يبقَ مَن تحصل معه المعية؛ إذ لا شيء معه، وإن نظرت من حيث الجمع والفرق أثبتَ الفرق في عين الجمع فتحصل المعية منه له جمعاً، ومنه لأثره فرقاً، ولا فرق حقيقة، فافهم، ولا يفهم هذا إلاّ أهل العشق الكامل، وهم أهل الفناء، كما قال ابن الفارض‏:‏

فلم تَهْوَني ما لم تكن فيَّ فانياً *** ولم تَفْنَ ما لم تجْتَل فيك صورتي

تفسير الآيات رقم ‏[‏7- 11‏]‏

‏{‏آَمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ ‏(‏7‏)‏ وَمَا لَكُمْ لَا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثَاقَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ‏(‏8‏)‏ هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلَى عَبْدِهِ آَيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ ‏(‏9‏)‏ وَمَا لَكُمْ أَلَّا تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ‏(‏10‏)‏ مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ ‏(‏11‏)‏‏}‏

يقول الحق جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏آمِنوا بالله ورسوله‏}‏ أي‏:‏ دُوموا على إيمانكم، إن كان خطاباً للمؤمنين، فيكون توطئة لدعائهم إلى ما بعده من الإنفاق وغيره؛ لأنهم أهل لهذه الرُتب الرفيعة، أو‏:‏ أَحْدِثوا الإيمان، إن كان خطاباً للكفار، ‏{‏وأَنفِقوا‏}‏ أي‏:‏ تصدّقوا، فيشمل الزكاة وغيرها، ‏{‏مما جعلكم مستخلفين فيه‏}‏ أي‏:‏ جعلكم خلفاء في التصرُّف فيه من غير أن تملكوه حقيقةً، وما أنتم فيه إلاّ بمنزلة الوكلاء والنُواب، فأنفِقوا منها في حقوق الله تعالى، وَلْيَهُنْ عليكم الإنفاق منها، كما يهون على الرجل الإنفاق من مال غيره إذا أَذِنَ له، أو‏:‏ جعلكم مستخلفين ممن كان قبلكم فيما كان في أيديهم بتوريثكم إياه، وسينقله منكم إلى غيركم، فاعتبِروا بحالهم ولا تبخلوا به، ‏{‏فالذين آمنوا‏}‏ بالله ورسوله ‏{‏منكم وأنفَقوا لهم أجرٌ كبير‏}‏ لا يُقادر قدره‏.‏

‏{‏وما لكم لا تؤمنون بالله‏}‏ هو حال، أي‏:‏ أيّ شيء حصل لكم غير مؤمنين، وهو توبيخ على ترك الإيمان حسبما أُمروا به، بإنكار أن يكون لهم عذر مّا في الجملة، ‏{‏والرسولُ يدعوكم‏}‏ ويُنبهكم عيله، ويُقيم لكم الحجج على ذلك، ‏{‏لتؤمنوا بربكم وقد أخذ‏}‏ قبل ذلك عليكم ميثاقه في عالم الذر، على الإقرار بالربوبية، والتصديق بالداعي، بعد أن رَكّب فيكم العقول، فلم يبق لكم عذر في ترك الإيمان، أو‏:‏ أخذ ميثاقه بنصب الأدلة والتمكين من النظر، فانظروا واعتبروا وآمنوا، ‏{‏إِن كنتم مؤمنين‏}‏ بأخذ هذا الميثاق، أو‏:‏ بموجبٍ ما، فإنَّ هذا موجب لا موجب وراءه‏.‏

‏{‏هو الذي يُنَزِّلُ على عبده‏}‏ محمد صلى الله عليه وسلم ‏{‏آيات بيناتٍ‏}‏ واضحاتٍ، يعني القرآن، ‏{‏ليُخرجَكم‏}‏ أي‏:‏ الله تعالى، أو العبد ‏{‏من الظلمات‏}‏ أي‏:‏ من ظلمات الكفر والمعاصي والغفلة، إلى نور الإيمان والتوبة واليقظة، ‏{‏وإنَّ الله بكم لرؤوف رحيم‏}‏ حيث يهديكم إلى سعادة الدارين، بإرسال الرسول، وتنزيل الآيات، بعد نصب الحُجج العقلية‏.‏

ثم وبَّخهم على ترك الإنفاق، بعد توبيخهم على ترك الإيمان، على ترتيب قوله‏:‏ ‏{‏آمِنوا‏}‏ و‏{‏إنفِقوا‏}‏ فقال‏:‏ ‏{‏وما لكم ألاَّ تُنفقوا في سبيل الله‏}‏ أي‏:‏ أيّ شيء حصل لكم في ألاّ تنفقوا فيما هو قُربة إلى الله تعالى، وهو له حقيقة، وإنما أنتم خلفاؤه في صرفه إلى ما عيّنه من المصارف‏؟‏ ‏{‏ولله ميراثُ السماوات والأرض‏}‏ يرث كل شيء فيهما، لا يبقى لأحد شيء من ذلك، وإذا كان كذلك فأيّ عذر لكم في ترك إنفاقه ‏{‏في سبيل الله‏}‏ والله مُهلككم، فوارث أموالكم‏؟‏ فتقديمها لله أولى، وهي أبلغ آية في الحث على الصدقة‏.‏ وإظهار اسم الجليل في موضع الإضمار في «لله» لزيادة التقرير، وتربية المهابة‏.‏

ثم بيّن التفاوت بين المنفِقين منهم باعتبار الزمان، فقال‏:‏ ‏{‏لا يستوي منكم مَن أنفق مِن قبل الفتح وقاتلَ‏}‏ مع مَن أنفق بعد الفتح وقاتل، حذفه لدلالة ما بعده عليه من قوله‏:‏ ‏{‏أولئك أعظم درجة‏.‏

‏.‏‏.‏‏}‏ الخ، والمراد‏:‏ فتح مكة، أي‏:‏ لا يستوي مَن أنفق قبل عز الإسلام وظهوره، مع مَن أنفق بعد لك، ‏{‏أولئك‏}‏ الذين أنفقوا قبل الفتح وقاتلوا، وهم السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار، الذين قال فيهم النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ «لو أنفق أحدكم مثل أُحُدٍ ذهباً ما بَلَغَ مُدَّ أَحَدِهِمْ، ولا نِصفه»، فهم ‏{‏أعظمُ درجةً من الذين أنفقوا من بعدُ وقاتلَوا‏}‏ لأنّ مَن أنفق وقت الحاجة والاضطرار، أعظم ممن أنفق في حال السعة والبسط، ‏{‏وكُلاًّ‏}‏ أي‏:‏ كل واحد من الفريقين ‏{‏وَعَدَ اللّهُ الحسنى‏}‏ وهي الجنة مع تفاوت الدرجات‏.‏ وقرأ الشامي بالرفع، مبتدأ، أي‏:‏ وعده الله الحسنى، ‏{‏والله بما تعملون خبير‏}‏ فيُجازيكم على قدر أعمالكم‏.‏

‏{‏من ذا الذي يُقْرِضُ اللّهَ قرضاً حسناً‏}‏ هو ندب بليغ من الله تعالى إلى الإنفاق في سبيله، بعد الأمر به، والتوبيخ على تركه، وبيان درجات المنفقين، أي‏:‏ مَن ذا الذي يُنفق ماله في سبيل الله رجاء أن يعوضه مثل ذلك وأكثر، فإنه كمن يُقرضه‏.‏ وحسن الإنفاق بالإخلاص فيه، وتحري أكرم المال، وأفضل الجهات، ‏{‏فيُضاعِفه له‏}‏ أي‏:‏ يعطيه أجره على إنفاقه مضاعفاً أضعافاً كثيرة من فضله، ‏{‏وله أجرٌ كريمٌ‏}‏ وذلك الأجر المضموم إليه الأَضعاف كريمٌ في نفسه، حقيقٌ بأن يُتنافس فيه وإن لم يُضاعف، فكيف وقد ضُوعف أضعافاً كثيرة‏!‏ ومن نصب فعلى جواب الاستفهام‏.‏

الإشارة‏:‏ أَمَرَ الحقُّ تعالى مشايخَ التربية، والعلماءَ الأتقيا، أن يؤمنوا إيمان شهود وعيان، أو إيمان تحقيق وبرهان، فالأول للأولياء، والثاني للعلماء، ثم قال‏:‏ ‏{‏وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه‏}‏ من العلوم الوهبية، أو الرسمية، فالذين آمنوا منكم كما تقدّم، مما عندهم سعة العلوم الوهبية، أو مِن ضيق العلوم الرسمية، لهم أجر كبير‏:‏ سكنى الحضرة، في مقعد صدق، أو بُحْبُوحة الجنة في نعيم الأشباح‏.‏ وما لكم لا تؤمنون بالله، أي‏:‏ تُجددوا إيمانكم كل ساعة، بفكرة الاستبصار والاعتبار، والرسولُ يدعوكم لتُجددوا إيمانكم، وقد أخذ ميثاقكم في عالم الذر، ثم جدّده ببعث الرسل وخلفائهم من شيوخ التربية، الداعين إلى الله، إن كنتم مؤمنين بهذا الميثاق‏.‏ هو الذي يُنزِّل على عبده آيات بينات، وهو القرآن، يَنزل على رسوله صلى الله عليه وسلم ليُخرجكم من الظلمات إلى النور، من ظلمة المعاصي إلى نور التوبة والاستقامة، ومن ظلمة الغفلة إلى نور اليقظة، ومن ظلمة الهوى والحظوظ إلى نور الزهد والعِفة، ومن ظلمة الحس إلى نور المعنى، ومن ظلمة الجهل إلى نور العلم بالله‏.‏

وما لكم ألاَّ تنفقوا مُهجكم وأرواحكم في سبيل الله، ببذلها في مرضاة الله، ولله ميراث السموات والأرض، فيرثكم بأشباحكم وأرواحكم، فمَن بذلها عوّضه دوام الشهود، ومَن بخل بها عقبه حسرة الحجاب، لا يستوي منكم مَن أنفق نفسه وقاتلها قبل ظهور الطريق، مع مَن أنفق وجاهد بعد ظهورها، فالسابقون لم يجدوا أعواناً، والمتأخرون وجدوا أعواناً، وكُلاًّ وعد الله الحسنى الجنة الحسية، وزاد السابقين الجنة المعنوية، جنةَ المعارف‏.‏ والله بما تعملون خبير، لا يخفى عليه مَن تقدم ممن تأخر‏.‏ ‏{‏من ذا الذي يُقرض الله قرضاً حسناً‏}‏، قال القشيري‏:‏ هو أن يُقرض وينقطع عن قلبه حُبّ الدارين، ففي الخبر‏:‏ «خير الصدقة ما كان عن ظهر غنىً»‏.‏ ه‏.‏ فيضاعفه له بالترفي إلى ما لا نهاية له، وله أجر كريم، وهو مقعد صدق عند مليك مقتدر‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏12- 15‏]‏

‏{‏يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ‏(‏12‏)‏ يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آَمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ ‏(‏13‏)‏ يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ ‏(‏14‏)‏ فَالْيَوْمَ لَا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلَا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلَاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ‏(‏15‏)‏‏}‏

يقول الحق جلّ جلاله‏:‏ واذكر ‏{‏يومَ ترى‏}‏ أو‏:‏ لهم أجر كبير ‏{‏يومَ ترى المؤمنين والمؤمنات يسعى نُورُهم‏}‏ وهو نور الإيمان في الدنيا، يكون هناك حسيّاً يسعى ‏{‏بين أيديهم وبأَيمانهم‏}‏ وقيل‏:‏ هو القرآن، وعن ابن مسعود رضي الله عنه‏:‏ يؤتون نورهم على قدر أعمالهم، فمنهم مَن يؤتى نوره كالنخلة، ومنهك كالرجل القائم، وأدناهم نوراً مَنْ نوره على إبهام رجله، يطفأ تارة ويلمع تارة‏.‏

قلت‏:‏ ومنهم مَن نُوره كالقمر ليلة البدر، ومنهم مَن نوره كالشمس الضاحية، يُضيء خمسمائة عام، كما في أحاديث أخرى، وذلك على قدر إيمانهم وعرفانهم‏.‏ قال الحسن‏:‏ يستضيئون به على الصراط، وهم متفاوتون في السرعة، قال أبو نصر الهمداني‏:‏ أمة محمد صلى الله عليه وسلم على سبعة أنواع‏:‏ الصدِّيقون، والعلماء، والبُدلاء، والشهداء، والحُجاج، والمطيعون، والعاصون، فالصدِّيقون يمرُّون كالبرق، والعلماء، أي‏:‏ العاملون، كالريح العاصف، والبدلاء كالطير في ساعة، والشهداء كالجواد المسرع، يمرُّون في نصف يوم، والحجاج يمرُّون يومٍ كامل، والمطيعون في شهر، والعاصون يضعون أقدامهم على الصراط، وأوزارهم على ظهرهم، فيعثرون، فتقصد جهنم أن تحرقهم، فترى نور الإيمان في قلوبهم، فتقول‏:‏ جز يا مؤمن، فإنَّ نورك قد أطفا لهبي‏.‏ ه‏.‏ قلت‏:‏ الصدِّيقون على قسمين، أما أهل الاقتداء، الدالُّون على الله، المسلِّكون، فتقرب الغُرف لهم، فيركبونها، ويمرُّون، وأما الأفراد فيطيرون كالبرق‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

وقال مقاتل‏:‏ يكون هذا النور لهم دليلاً إلى الجنة، وتخصيص الجهتين لأنّ السعداء يُؤتون صحائف أعمالهم من هاتين الجهتين ‏{‏من بين أيديهم وعن إيمانهم‏}‏ كما أنَّ الأشقياء يؤتون صحائفهم من شمائلهم ووراء ظهورهم، فجَعَل النور في الجهتين إشعاراً لهم بأنهم بحسناتهم وبصحائفهم البيض أفلحوا‏.‏

وتقول لهم الملائكة‏:‏ ‏{‏بُشراكم اليومَ جناتٌ‏}‏ أي‏:‏ دخول جنات؛ لأنّ البشارة تقع بالإجداث دون الجُثث، ‏{‏تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ذلك هو الفوز العظيم‏}‏‏.‏ ‏{‏يومَ‏}‏ بدل من «يوم ترى» ‏{‏يقول المنافقون والمنافقاتُ للذين آمنوا انُظرونا‏}‏ أي‏:‏ انتظرونا؛ لأنه يُسرَع بهم إلى الجنة كالبرق الخاطف، ويبقى المنافقون في ظلمة، فيقولون للمؤمنين‏:‏ قفوا في سيركم لنستضيء بنوركم‏.‏ وقرأ حمزة‏:‏ «أَنظِرونا»، من الإنظار، وهو التأخير، أي‏:‏ أَمهِلوا علينا‏.‏ وقال الفراء‏:‏ تقول العرب‏:‏ أنظرني، أي‏:‏ انتظرني، فتتفق القراءتان‏.‏ وقيل‏:‏ من النظر، أي‏:‏ التفتوا إلينا وأَبْصِرونا ‏{‏نَقتبس مِن نوركم‏}‏ لأنَّ نورهم بين أيديهم، فيُقال طرداً لهم وتهكُّماً بهم من جهة المؤمنين أو الملائكة‏:‏ ‏{‏ارجعوا وراءكم‏}‏ أي‏:‏ إلى الموقف، إلى حيث أُعطينا هذا النور ‏{‏فالتمِسوا نوراً‏}‏ فإنّا هناك اقتبسناه، أو‏:‏ التفتوا وراءكم، فيلتفتون فيُحال بينهم، ‏{‏فضُرِبَ‏}‏ حينئذ ‏{‏بينهم‏}‏ بين الفريقين ‏{‏بسُورٍ‏}‏ بحائطٍ حائل بين شق الجنة وشق النار، ‏{‏له باب‏}‏ يلي المنافقين، ليروا ما فيه من المؤمنون من الأنوار والرحمة، فيزدادون حسرة، ‏{‏باطِنُه‏}‏ أي‏:‏ باطن ذلك السور، وهو الجهة التي تلي المؤمنين ‏{‏فيه الرحمةُ وظاهرهُ‏}‏ الذي يلي المنافقين ‏{‏مِن قِبَلِه العذابُ‏}‏ أي‏:‏ العذاب حاصل من قِبَلِه‏.‏

فالعذاب‏:‏ مبتدأ، و‏{‏مِن قِبَلِه‏}‏‏:‏ خبر، أي‏:‏ ظاهر السور تليه جهنم أو الظلمة، فيقابله العذاب، فهم بين النار والسور‏.‏

‏{‏يُنادونهم‏}‏ أي‏:‏ ينادي المنافقون المؤمنين‏:‏ ‏{‏ألم نكن معكم‏}‏ في الدنيا‏؟‏ يريدون موافقتهم لهم في الظاهر، ‏{‏قالوا‏}‏ أي‏:‏ المؤمنون‏:‏ ‏{‏بلى‏}‏ كنتم معنا في الظاهر ‏{‏ولكنكم فتنتم أنفسَكم‏}‏ أي‏:‏ محنتموها وأهلكتموها بالنفاق والكفر، ‏{‏وتربصتم‏}‏ بالمؤمنين الدوائر، ‏{‏وارتبتم‏}‏ في أمر الدين ‏{‏وغرتكم الأمانيُّ‏}‏ الفارغة، التي من جملتها أطماعكم في انتكاس الإسلام، أو‏:‏ طول الأمل وامتداد الأعمار ‏{‏حتى جاء أمرُ الله‏}‏؛ الموت، ‏{‏وغرَّكم بالله‏}‏ الكريم ‏{‏الغَرُورُ‏}‏ أي‏:‏ الشيطان بأنَّ الله غفور كريم لا يعذبكم، أو‏:‏ بأنه لا بعث ولا حساب‏.‏

‏{‏فاليومَ لا يُؤخذ منكم فديةٌ‏}‏ فداء ‏{‏ولا من الذين كفروا‏}‏ جهراً، ‏{‏مأواكم النارُ‏}‏ أي‏:‏ مرجعكم، لا تبرحون عنها أبداً ‏{‏هي مولاكم‏}‏ أي‏:‏ المتصرفة فيكم تصرُّف المولى في ملكه، أو‏:‏ هي أولى بكم، وحقيقة مكانكم الذي يقال فيه هو أولى بكم، أو‏:‏ ناصركم، على طريق‏:‏

تحيةٌ بينهم ضَرْبٌ وجِيعُ *** فيكون تهكُّماً بهم، ‏{‏وبئس المصيرُ‏}‏ أي‏:‏ النار‏.‏

الإشارة‏:‏ يوم ترى المؤمنين والمؤمنات، الكاملين في الإيمان، الطالبين الوصول، يسعى نورُهم، وهو نور التوجُّه بين أيديهم وبأيمانهم، فيهتدون إلى أنوار المواجهة، وهي المشاهدة، فيقال لهم‏:‏ بُشراكم اليوم جنات المعارف، تجري من تحتها أنهار العلوم، خالدين فيها، ذلك هو الفوز العظيم‏.‏ قال القشيري‏:‏ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يسعى نورهم‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الخ؛ كما أنَّ لهم في العرصة هذا النور؛ فاليومَ لهم نورٌ في قلوبهم وبواطنهم، يمشون في نورهم، ويهتدون به في جميع أحوالهم، قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏{‏المؤمن ينظر بنور الله‏}‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِّن رَّبِّهِ‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 22‏]‏‏.‏ وربما سقط ذلك النورُ على مَنْ يَقْربُ إليهم، وربما يقع من ذلك على القلوب، فلا محالة لأوليائه هذه الخصوصية‏.‏ ه‏.‏ قال الورتجبي‏:‏ ونورُ الحق الذي ألبس العارف تخضع له الأكوان ومَن فيها، ومثله لسهل‏.‏ فانظره مسْتوفٍ‏.‏

يوم يقول المنافقون والمنافقات، وهم الذين اعتنوا بتزيين الظواهر، وغفلوا عن البواطن، فصارت خراباً من النور، يقولون في الدنيا‏:‏ انظُرونا والتفتوا إلينا، نقتبس من نوركم، قيل‏:‏ ارجعوا وراءكم، إلى دنياكم وحظوظكم، فاتلمسوا نوراً، تهكُّماً بهم، فضُرب بينهم بسورٍ معنوي، وهو خرق العوائد، وتخريب الظواهر؛ إذ لا يقدرون على ارتكابه، له باب ليدخل معهم مَن أراد نورهم، باطن ذلك السور فيه الرحمة، وهي الراحة، والطمأنينة، والبسط، وبهجة المعارف، وظاهره الذي يلي العامة من قِبَلِه العذاب، وهو ما هم فيه من الحرص، والتعب، والجزع، والهلع، والقبض‏.‏ ينادونهم‏:‏ ألم نكن معكم في عالم الحس‏؟‏ وهو عالم الأشباح، قالوا‏:‏ بلى، ولكنكم لم ترتقوا إلى عالم المعاني، وهو عالم الأرواح، الذي هو محل الراحة والهنا والسرور، بل فَتنتم أنفسكم بأشغال الدنيا، واشتغلتم بطلب حظوظها وجاهها، ورئاستها وطيب مأكلها، ومشربها وملبسها، وتربصتم بأهل التوجه الدوائر، أو الرجوع إلى ما أنتم فيه، وارتبتم في وجود خصوصية التربية، وغَرَّتكم الأماني‏:‏ المطامع الكاذبة، وأنكم تنالون الخصوصية بغير صحبة ولا مجاهدة، وغرّكم طولُ الأمل والتسويف، عن التوبة والتوجُّه، وغرّك بحلمه الغرور، فزيَّن لكم القعود والتخلُّف عن مقامات الرجال، فاليوم، أي‏:‏ حين ظهرت مقامات الرجال في الدنيا والآخرة، لا يؤخذ منكم فدية في التخلُّص من غم الحجاب، ولا من الذين كفروا، مأواكم نار القطيعة، هي مولاكم ومنسحبة عليكم، وبئس المصير‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏16- 17‏]‏

‏{‏أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آَمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ ‏(‏16‏)‏ اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآَيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ‏(‏17‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ ‏{‏ألم يأن‏}‏‏:‏ مجزوم بحذف الياء، من‏:‏ أَنَى يأنِي، كمَضَى يمضي‏:‏ إذا حان وقرب‏.‏ و‏{‏أن تخشع‏}‏‏:‏ فاعل‏.‏ و‏{‏لا يكونوا‏}‏‏:‏ عطف على «تخشع»، وقرأ رويس عن يعقوب بالخطاب، فيكون التفاتاً؛ للاعتناء بالتحذير، أو نهياً‏.‏

يقول الحق جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏ألم يَأْنِ‏}‏ ألم يحضر، أو يقرب ‏{‏للذين آمنوا أن تخشع قُلوبُهم لذكر الله‏}‏ أو‏:‏ ألم يجيء وقت خشوع قلوب المؤمنين لذكر الله تعالى، وتطمئن به، ويسارعون إلى طاعته، بالامثال لأوامره والاجتناب لنواهيه‏.‏ قيل‏:‏ كانوا مجدبين بمكة، فلما هاجروا وأصابوا الرزق والنعمة، ففتروا عما كانوا عليه، فنزلت‏.‏ وبه تعلم أنَّ الشدة هي عين الرخاء، وأنَّ الجلال هو الجمال، وأين هو حبيبك ثَمَّ هو عدوك‏.‏ وعن ابن مسعود رضي الله عنه‏:‏ ما كان بين إسلامنا وبين أن عوتبنا بهذه الآية إلا أربعُ سنين‏.‏ وعن ابن عباس رضي الله عنه‏:‏ استبطأ قلوب المؤمنين فعاتبهم على رأس ثلاث عشرة سنة من نزول القرآن‏.‏

وعن أبي بكر رضي الله عنه‏:‏ إنَّ هذه الآية قُرئت بين يديه، وعنده قوم من أهل اليمامة، فبكوا بكاءً شديداً، فنظر إليهم فقال‏:‏ «هكذا كنا حتى قست قلوبنا»‏.‏ قلت‏:‏ مراده بالقسوة‏:‏ التصلُّب والتثبُّت للورادات، وذلك أنَّ القلب في البدايات يكون رطباً مغلوباً للأحوال والواردات، يتأثر بأدنى شيء، فإذا استمر مع الأنوار والواردات؛ استأنس بها وتصلّب واشتد، فلا تؤثر فيه الواردات، فيكون مالكاً للأحوال، لا مملوكاً، وهذا أمر ذَوقْي، يرتفع البكاء عن العارفين، ويظهر على الصالحين والطالبين‏.‏ وهذه الآية أيضاً كانت سبب توبة الفُضيل، كان صاعداً لجارية، فسمع قارئاً يقرأها، فقال‏:‏ قد آن الخشوع والرجوع، فتاب‏.‏

والمراد بذكر الله ذكر اسمه تعالى على أي لفظ كان، كقوله‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا الْمُؤمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 2‏]‏ الآية، أو‏:‏ القرآن، فيكون قوله‏:‏ ‏{‏وما نَزَلَ من الحق‏}‏ عطف تفسير، أو لتغاير العنوانين، فإنه ذِكْرٌ وموعظة، كما أنه حقٌّ نازل من السماء‏.‏ والمراد بالخشوع‏:‏ الإنابة والخضوع، ومتابعة الأمر والنهي‏.‏ ‏{‏ولا يكونوا كالذين أُوتوا الكتاب من قبلُ‏}‏ أي‏:‏ اليهود والنصارى، ‏{‏فطال عليهم الأمدُ‏}‏ الزمن بينهم وبين أنبيائهم، ‏{‏فقست قلوبُهم‏}‏ باتباع الشهوات، وذلك أنَّ بني إسرائيل كان الحقُّ يحول بينهم وبين شهواتهم، وإذا سمِعوا التوراة خشعوا له، ورقَّت قلوبهم، فلما طال عليهم الزمان غلب عليهم الجفاء والقسوة، واختلفوا‏.‏

قال ابن مسعود‏:‏ إن بني إسرائيل لمّا طال عليهم الأمد قست قلوبُهم، فاخترعوا كتاباً من عند أنفسهم، استحلته أنفُسِهم، وكان الحق يحول بينهم وبين كثيرٍ من شهواتهم، حتى نبذوا كتابَ الله وراء ظهورهم، كأنهم لا يعلمون، ثم قالوا‏:‏ اعْرِضوا هذا الكتاب على بني إسرائيل، فإن تابعوكم فاتركوهم، وإلاَّ فاقتلوهم‏.‏

ثم اتفقوا أن يرسلوه إلى عالمٍ من علمائهم، ‏[‏وقالوا‏]‏‏:‏ إن هو تابعنا لم يخالفنا أحد، وإلاَّ قتلتموه، فلا يختلف علينا بعده أحد، فأرسلوا إليه، فكتب كتاب الله في ورقة، وجعلها في قرن، وعلقها في عنقه، ثم لبس عليه ثيابه، وأتاهم، فعرضوا عليه كتابهم، وقالوا‏:‏ أتؤمن بهذا‏؟‏ فأومئ إلى صدره، وقال‏:‏ آمنتُ بهذا- يعني المعلَّق على صدره- فافترقت بنو إسرائيل على بضع وسبعين ملة‏.‏ ه‏.‏

قال تعالى‏:‏ ‏{‏وكثيرُ منهم فاسقون‏}‏ خارجون عن دينهم، رافضون لما في الكتابين، أي‏:‏ وقليل منهم مؤمنون، فنهى الله تعالى المؤمنين أن يكونوا مثلهم‏.‏ وقال ابن عطية‏:‏ الإشارة بقوله‏:‏ ‏{‏أوتوا الكتاب‏}‏ إلى بني إسرائيل المعاصرين لموسى عليه السلام، ولذلك قال‏:‏ ‏{‏من قبل‏}‏، وإنما شبّه أهل عصر نبي بأهل عصر نبي، وقوله‏:‏ ‏{‏فطال عليهم الأمدُ‏}‏ قيل‏:‏ أمد الحياة، وقيل‏:‏ أمد انتظار القيامة‏.‏ ه‏.‏ وقال مقاتل‏:‏ ‏{‏الأمد‏}‏ هنا‏:‏ الأمل، أي‏:‏ لما طالت آمالهم لا جرم قست قلوبهم‏.‏ ه‏.‏ قيل‏:‏ إن الصحابة ملُّوا ملالة، فقالوا‏:‏ حدِّثنا، فنزل‏:‏ ‏{‏نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 3‏]‏، وبعد مدة قالوا‏:‏ لو ذَكَّرتَنا، فنزلت هذه السورة‏.‏

وهذه الآية ‏{‏اعلموا أنَّ الله يُحيي الأرضَ بعد موتها‏}‏ قيل‏:‏ هذا تمثيل لأثر الذكر في القلوب، وأنه يُحييها كما يُحيي الغيثُ الأرض، وفيه إرشاد إلى أنَّ طريق زوال القسوة ليس إلاَّ الالتجاء إلى الله، ونفى الحول والقوة؛ لأنه تعالى القادر وحده على ذلك، كما أنه وحده يُحيي الأرض، ‏{‏قد بيّنا لكم الآيات‏}‏ التي من جملتها هذه الآية، ‏{‏لعلكم تعقلون‏}‏ كي تعقلوا ما فيها، وتعملوا بموجبها، فتفوزوا بسعادة الدارين‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

الإشارة‏:‏ خشوع القلب لذكر الله هو ذهوله وغيبته عند سطوع أنوار المذكور، فيغيب الذاكر في المذكور، وهو الفناء، والخشوع لسماع ما نزل من الحق‏:‏ أن يسمعه من الحق، لا من الخلق، وهو أقصى درجات المقربين‏.‏ ثم نهى تعالى الخواص أن يتشبّهوا بأهل العلوم الرسمية اللسانية؛ لأنه طال بهم الأمل، وتنافسوا في الرئاسة، وتهالكوا في الحظوظ العاجلة، حتى قست قلوبهم، وخرجوا عن الإرادة بالكلية، قال القشيري‏:‏ وقسوة القلب إنما تحصل من اتباع الشهوة؛ فإن الشهوة والصفوة لا يجتمعان، وموجِبُ القسوة‏:‏ انحرافُ القلب عن مراقبة الربِّ، ويقال‏:‏ موجب القسوة أوله خطرة، فإنْ لم تتدارَكْ صارت فكرة، وإن لم تتدارَكْ صارت عزيمة، فإن لم تتدارَكْ صارت مخالفة، فإن لم تتلافَ صارت قسوةً، وبعد ذلك طبع ودين‏.‏ ه‏.‏ وحينئذ لا ينفع الوعظ والتذكير، كما قال‏:‏

إذا قسا القلبُ لم تنفعه موعظةٌ *** كالأرض إن سبختْ لم ينفع المطرُ

اعلموا أن الله يُحيي أرض القلوب بالعلم والمعرفة، بعد موتها بالغفلة والجهل، قد بيَّنَّا الآيات لمَن يتدبّر ويعقل‏.‏